للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأيضا فإن الجسم قواه لا تعرف العلوم إلا من الحواس ولا يميل غلا إليها فهي تتشوقها بالملابسة والمشابكة كالشهوات البدنية ومحبة الإنتقام والغلبة وبالجملة كل ما يحس ويوصل إليه بالحس والجسم يزداد بهذه الأشياء قوة ويستفيد منها تماما وكمالا لأنها مادته وأسباب وجوده فهو يفرح بها ويشتاق إليها من أجل إنها تتمم وجوده وتزيد فيه وتمده. فأما هذا المعنى الآخر الذي سميناه نفسا فإنه كلما تباعد من هذه المعاني البدنية التي أحصيناها وتداخل إلى ذاته وتحلى من الحواس بأكثر ما يمكن ازداد قوة وتماما وكمالا وتظهر له الآراء الصحيحة والمعقولات البسيطة.

وهذا إذن أدل دليل على أن طباعه وجوهره من غير طباع الجسم والبدن وأنه أكرم جوهر أو أفضل طباعا من كل ما في هذا العالم من الأمور الجسمانية وايضا فإن تشوقها إلى ما ليس من طباع البدن وحرصها على معرفة حقائق الأمور الآلهية وميلها إلى الأمور التي هي أفضل من الأمور الجسمية وإيثارها لها وإنصرافها عن الأمور واللذات الجسمانية يدلنا دلالة واضحة إنها من جوهر أعلى وأكرم جدا من الأمور الجسمانية.

لأنه لا يمكن في شيء من الأشياء أن يتشوق ما ليس من طباعه وطبيعته ولا أن ينصرف عما يكمل ذاته ويقوم جوهره فإذا كانت أفعال النفس إذا إنصرفت إلى ذاتها فتركت الحواس مخالفة لأفعال البدن ومضادة لها في محاولاتها وإراداتها فلا محالة إن جوهرها مفارق لجوهر البدن ومخالف له في طبعه.

وأيضا فإن النفس وإن كانت تأخذ كثيرا من مبادىء العلوم عن الحواس فلها من نفسها مباد أخر وأفعال لا تأخذها عن الحوس ألبتة وهي المبادىء الشريفة العالية التي تنبني عليها القياسات الصحيحة. وذلك إنها إذا حكمت إنه ليس بين طرفي النقيض واسطة فإنها لم تأخذ هذا الحكم من شيء آخر لم يكن أوليا. وأيضا فإن الحواس تدرك المحسوسات فقط وأما النفس فإنها تدرك أسباب الإتفاقات وأسباب الإختلافات التي من المحسوسات وهي معقولاتها التي لا تستعين عليها بشيء من الجسم ولا آثار الجسم.

<<  <   >  >>