فمن لا يعرف اللذة بالحقيقة كيف يلتذ بها؟ ومن لا يعرف الرياسة الذاتية كيف يصير إليها؟ فأنا قد قدمنا وصفها وشوقنا إليها بإعادة الكلام فيها مرارا وقلنا. من لا يعرف الخير المطلق والفضيلة التامة ولا يعرف الحكمة العملية يعني إيثار الأفضل والعمل به والثبات عليه لا ينشط له ولا يرتاح إليه. ومن كان كذلك فكيف يلتذ ويتنعم بما شرحناه ودللنا عليه؟ وقد كان للحكماء المتقدمين مثل يضربونه ويكتبونه في الهياكل " وهي مساجدهم ومصلاهم: وهو هذا الملك الموكل بالدنيا يقول إن ههنا خيرا وهناك شرا وههنا ما ليس بخير ولا شر. فمن عرف هذه الثلاثة حق معرفتها تخلص مني ونجا سالما. ومن لم يعرفها قتلته شر قتلة وذلك أني لا أقتله قتلا وحيا ولكني أقتله أولا أولا في زمان طويل ".
فهذا المثل من نظر فيه وتأمله عرف منه جميع ما قدمنا ذكره، وينبغي أن يعلم ان السعيد الذي ذكرنا حاله ما دام حيا تحت هذا الفلك الدائر بكواكبه ودرجاته ومطالع سعوده ونحوسه يرد عليه من النكبات والنوائب وأنواع المحن والمصائب ما يرد على غيره. إلا أنه يذعر منها ولا يلحقه ما يلحق غيره من المشقة في احتمالها لأنه غير مستعد لسرعة الإنفصال منها بعادة الهلع والجزع والأحزان ولا قابل أثر الهموم والأحزان بالأحوال العارضة. وإن أصابه من هذه الآلام شيء فهو يقدر على ضبط نفسه كيلا تنقله عن السعادة إلى ضدها بل لا تخرجه عن حد السعادة ألبتة. ولو ابتلى ببلايا أيوب عليه السلام وأضعافها ما اخرجه عن حد السعادة. وذلك لما يجد في نفسه من المحافظة على شروط الشجاعة والصبر على ما يجزع منه أصحاب خور الطباع فيكون سروره أولا بذاته وبالأحاديث الجميلة التي تنشر عنه