للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولكِنْ لِيَكُنْ مَشْيُك وَسَطًا بيْنَ هذا وهذا، دَالًّا على القُوَّة وعلى النَّشَاط كما كان الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفْعَلُ في مَشْيِه.

وقوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ}: {مِنْ} هذه لِلتَّبعيض، فلَمْ يَقُلِ: اغْضُضْ صَوتَك. بل قال: مِنْهُ. وذلك لأنَّ الإنسان لا يُحْمَد على رَفْعِ الصَّوْتِ جِدًّا، ولا على خَفْضِهِ جِدًّا، والنَّاس مِنهم مَن يَكُون عَالِيَ الصَّوْت إِذَا قَام يَتكلَّم وإذَا هو كأنَّمَا يَتكَلَّمُ على جَمَاعَةٍ بَعِيدِين، ومن الناس مَن يَكُون بالعَكْس، يُكَلِّمُك رُبَّمَا لا تَفْهَمُ مِنْه إلَّا الكَلِمَة بَعْد الكَلِمة، كُلّ هذا لَيْس بِجَيِّد؛ ولهذا قَال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ}، ولم يَقُلِ: اغْضُضْه كُلَّه. فلا ينبَغِي هذا ولا هذا، بل يَكُون أيضًا قَصْدًا بين رَفْعِ الصَّوْت والإخْفَاء.

فقولُه تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} المُرَاد به: عند المُخَاطَبَة، ثُمَّ إنَّ {مِنْ} هنا تُفِيدُ التَّبعيض في الكَيْفِيَّة، وكذلك في الكَمِّيَّة، في بعض أحيان يَكون الأفضَل أن تَرْفَع صَوتَك، افْرِضْ أنَّك تُنَادِي قومًا بعيدِين مُتَرَامِي الأطْرَاف تُريد أن تحثَّهم على قِتَال أو ما أشْبَهَ ذلك؛ فيَجُوز رَفْعُ الصَّوْت؛ ولهذا العَبَّاسُ بنُ عَبْد المُطَّلِب -رضي اللَّه عنه- في الحديث الصَّحيح لمَّا انصرَفَ الناس أمَرَه النبيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أن يُنَادِيَ فقال -بأَعلَى صوتِه-: يَا أَهْل الشَّجَرَة، يَا أصْحَابَ سُورَةِ البَقَرَة (١). بأَعلَى صوتِه، وهذا لا شَكَّ أنَّه ليس غَضًّا مِن الصَّوْت؛ لأنَّ اللَّه تعالى يَقُول: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ}.

فصارَ الغَضُّ مِن الصَّوْت باعتِبَار الكَمِّيَّة وباعْتِبَارِ الكَيفيَّة؛ نَقُول مثَلًا: إذا كُنت تُخَاطِبُ مَن إِلى جَانِبِك لا تَرْفَعِ الصَّوْت ولا تَخْفِضْهُ بِحَيْثُ لا يَسْمَع، هذا باعتِبَار


(١) أخرجه مسلم: كتاب الجهاد، باب في غزوة حنين، رقم (١٧٧٥)، من حديث العباس -رضي اللَّه عنه-، دون قوله: "يا أصحاب البقرة"، وهي في رواية الإمام أحمد (١/ ٢٠٧).

<<  <   >  >>