للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعُلِمَ ممّا تقررَّ: أنّه لو ورد دليلٌ خاصٌّ بضررٍ خاصٍّ خُصِّصَ به العمومُ, على القاعدة الأصوليَّة من تقديم الخاصِّ على العامِّ، ولا نظرَ حينئذٍ لرعاية المصالح، خلافًا لما أطال به الشارح الطوفيُّ (١) هنا، وبسط الكلام عليه في نحو كرَّاسين، وزعم أنَّ المصلحة تُقدَّم على جميع الأدلَّة حتّى النصِّ والإجماعِ! (٢)، ومع عدم الورود تُرَاعَى المصالحُ إثباتًا، والمفاسدُ نفيًا؛ لأن الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة؛ لأنَّهما نقيضان لا واسطة بينهما.

وأخذ منه الشافعيّة (٣) أنَّ للجار منعَ جارِه مِن وضعِ جِذعه (٤) على جداره وإن


(١) التعيين (٢٣٦ - ٢٦٠).
(٢) أطال الطوفيُّ في هذه المسألة في شرح هذا الحديث، وقد ذهب إلى منحىً بعيدٍ لا يوافقه عليه أهل العلم رحمهم الله، من ذلك أنه رأى أنّ: (رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنَّها أقوى أدلَّة الشرع؛ لأنَّ الأقوى من الأقوى أقوى) ص (٢٣٩) وأيضًا ذهب إلى أنَّ الإجماع ليس بحجة ص (٢٥٦) وإن كان قيَّد كلامه بالإجماع في العبادات والمعاملات في (ص ٢٥٠)! والمصيبة العظمى: أنّه حمَّل الاِختلاف بين الأمَّة والشقاق على النصوص الشرعيًّة في ص (٢٥٩)! . إلى غير هذه المسائل التي خالف فيها علماء الأمة, وقد استلَّ هذا الجزءَ بعضُ العلماء ونشروه مفردًا, منهم: جمالُ الدِّين القاسميُّ، وشرحَه ونشره في مجلَّة المنار في المجلَّد التاسع، في الجزء العاشر الصَّادر عام (١٩٠٦ م).
(٣) قال النوويُّ في المنهاج (٢٦١): (والجدار بين المالِكَين قد يختصُّ به أحدهما، وقد يشتركان فيه، فالمختصُّ: ليس للآخَر وضع الجذوع عليه في الجديد)، وقال الشِربينيِّ في شرحه: (وقد يقتضي التعبير بالجديد بأنَّ مقابلَه قديمٌ محضٌ، وليس مرادًا بل هو منصوصٌ عليه في الجديد أيضًا، حكاه البويطيُّ عن الشافعيِّ، وهو من رواة الجديد). مغني المحتاج (٣/ ١٧٨). وانظر: فتح العزيز (١٠/ ٣١٥). وذكر البغويُّ في شرح السنة (٨/ ٢٤٧): أنّ أكثر أهل العلم على عدم الإجبار، وأجابوا عن الخبر بجوابين: أحدهما أنّه محمول على الندب والاستحباب، وحسن الجوار، وثانيهما: ما قاله الإسنوي: أنّ الضمير في (جاره) يعود إلى المالك، وقد تعقّبه ابن التِّين بأنه إحداث قول ثالثٍ في تفسير الخبر! ثمّ تعقّب عليه ابن حجر، انظر: فتح الباري (٥/ ١١١)، ونقل الحافظ عن البيهقيِّ من الشافعية أنّه قال: (لم نجد في السُّنن الصحيحةِ ما يعارض هذا الحكم إلا عموماتٌ لا يستنكرُ أن نخصّها). ولعلّ الأحسنَ-والله أعلم-: هو أنَّ حديث الباب - «لا ضرر ولا ضرار» - مخصَّصٌ بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، لقضاء عمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه، رواه مالك في الموطَّإ (٢/ ٧٤٢) بسندٍ صحيحٍ، والله أعلم.
(٤) الجِذع: بالكسر ساق النخلة، ويسمى سهم السقف جذعًا والجمع جذوع وأجذاع. المصباح المنير (١/ ٩٤).

<<  <   >  >>