ورُوِيَ أن بعضَ التابعين ذُكرَ عنده إنسانٌ فقيل: "أَحْكَمَ القرآنَ"، "فكره
ذلك فقيل: "حامل قرآن " فكرهه، وقال: "قولوا: حَفِظَ ". لأنّه اعتقدَ أنّ
الحفظَ إنما يُراد به التلاوةُ.
وقولَهم: أحكمَ، وحمل القرآن، وحافظُ القرآن
إنما يجري على القائم بحدوده السامعِ المطيعِ لموجَبِه.
وحُكِيَ عن الحسن البصري أنه كان يقول: إنَّ أحدَكم ليقول: والله لقد
قرأتُ القرآنَ كله، وما أسقطتُ منه حرفاً واحداً، وقد واللهِ أسقطه كله ".
يعني بذلك تركَ العمل بموجَبِه، والمحافظةَ على حدوده ومراسمه.
ورُوِيَ أن عقبةَ بن عامر كان من أحسنِ الناس صوتاً بالقرآن، فاستقرأهُ
عمر فقرأ عليه براءة، فبكى عمر، ثم قال: "ما كنتُ أظن أنّها نزلت ".
إنما قال ذلك لما وجد من نَضارتها وجِدّتِها بحسنِ قراءةِ عقبة، وما جدَّدَته
وأحدثته له من الخوفِ والوَجَلِ والإذكارِ بأمرِ الله تعالى، والتحذيرِ من وعيده، والترغيبِ في ثوابه على نحو ما يقولُ القائل: كأني ما قرأتُها قطُّ ولا سَمِعتُها.
ومن ظن بعمرَ رضيَ الله عنه أنّه لم يعرف أنّ سورةَ براءةَ قد نزلت مع
شُهرتها وإنفاذِ الرسول بها إلى أهلِ مكةَ مع أبي بكرٍ وعلي، وتذلُلِ أبي
هريرةَ بها، وما تضمنته من حال العقود والعهود وغير ذلك: فهو الغبيُّ
المغرور، بل من ظنَّ ذلك بأدنى المؤمنين منزلةً فقد جَهِلَ جهلاً فاحشاً.
وقد يجوزُ أيضاً أن تكونَ كراهتُهم لإطلاقِ القول بأنّ فلاناً حافظٌ للقرآن
وجامعٌ له لأجل أنهم اعتقدوا أن ذلك إنما يجري على من حَفِظَ ناسخَ القرآنِ
ومنسوخَه، وجميعَ وجوهِه وحروفِه التي أُنزل عليها، فلا يُوصَف به عندَهم