فلما كان من الغد ورد يعقوب، فدخل عليه، فقال: يا أبا عبد الله، أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول: قد أحببت أن آنس بقربك، وأن أتبَّرك بدعائك، وقد وجّهت إليك عشرة آلاف درهم معونةً على سفرك.
أخرج صرّةً فيها بدرة نحو مائتي دينار، والباقي دراهم صحاح، فلم ينظر إليها، ثم شدّها يعقوب، وقال له: أعود غداً حتى أبصر ما تعزم عليه وانصرف.
فجئت بإجّانة خضراء، فكببتها على البدرة، فلما كان عند المغرب قال: يا صالح خذ هذا صيّره عندك، فصيّرتها عند رأسي فوق البيت، فلما كان سحراً إذا هو ينادي: يا صالح، فقمت فصعدت إليه، فقال: ما نمت ليلتي هذه، فقلت: لم يا أبة؟ فجعل يبكي، وقال: سلمت من هؤلاء، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، قد عزمت على أن أفرّق هذا الشيء إذا أصبحت، فقلت: ذاك إليك، فلما أصبح قال: جئني يا صالح بميزان؛ وقال: وجّهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار. ثم قال: وجّه إلى فلان، يفرّق في ناحية، وإلى فلان، فلم يزل حتى فرّقها كلّها، ونفضت الكيس، ونحن في حالةٍ الله تعالى بها عليم.
فجاء بنيّ لي فقال: يا أبة أعطني درهماً، فنظر إليّ، فأخرجت قطعةً، فأعطيته، وكتب صاحب البريد: إنه قد تصدق بالدراهم من يومه، حتى تصدّق بالكيس.
قال عليّ بن الجهم: فقلت: يا أمير المؤمنين: قد علم الناس أنه قد قبل منك، وما يصنع أحمد بالمال؟ وإنما قوته رغيف. فقال لي: صدقت يا عليّ.
قال صالح: ثم أخرجنا ليلاً معنا حراس، معهم النفّاطات (١)، فلما أضاء الفجر قال لي: يا صالح معك دراهم؟ قلت: نعم. قال: أعطهم، فأعطيتهم
(١) ضرب من السرج يستصبح به، أو أدوات من النحاس يرمى فيا بالنفط والنار.