وسبب ظهوره أمران: الأول كون الشيء جمليا، فإن الجملة أسبق دائما إلى النفس من التفصيل. ألا ترى أن الرؤية
لا تصل في أول أمرها إلى الوصف على التفصيل لكن على الجملة، ثم على التفصيل؟ ولذلك قيل النظرة الأولى حمقاء، وفلان لم يمعن النظر. وكذلك الشأن بالنسبة لسائر الحواس، فإنه يدرك من تفاصيل الصوت والذوق والشم واللمس في المرة الثانية ما لم يدرك في المرة الأولى.
فمن يروم التفصيل كمن يبتغي الشيء من بين جملة أشياء يريد تمييزه مما اختلط به، ومن يريد الإجمال كمن يريد أخذ الشيء جزافا من غير تدقيق نظر. وكذلك حكم ما يدرك بالعقل، ترى الشيء يسبق دائما إلى الذهن إجمالا، أما التفاصيل فمغمورة في الإجمال لا تحضر وتنكشف إلا بعد إعمال الرؤية.
والأمر الثاني في ظهور وجه الشبه في بادئ الرأي كونه قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبه به في الذهن، إما عند حضور المشبه لقرب المناسبة بينهما، كتشبيه العنبة الكبيرة السوداء بالإجاصة في الشكل وفي المقدار، وإما مطلقا لتكرره على الحس، كتشبيه الشمس بالمرآة المجلوّة في الاستدارة والاستنارة؛ فإن قرب المناسبة والتكرر كل واحد منهما يعارض التفصيل لاقتضائه سرعة الانتقال.
والبعيد الغريب: هو ما لا ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر، وذلك لخفاء وجهه في بادئ الرأي.
وسبب خفائه أمران: أحدهما كونه كثير التفصيل، كقول الراجز:
«والشمس كالمرآة في كف الأشل». فوجه الشبه في هذا التشبيه هو الهيئة