للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ينبغي لنا أن نقرر أيضًا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي من أدق اللحظات في تاريخه. . . فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال. أضف إلى هذا أن زعماء الإصلاح في الدين والسياسة قد يجاوزون في تحمسهم لتحرير الفكر الحدود الصحيحة للإصلاح إذا انعدم ما يكبح جماح حميتهم الفتية. . . إنه ينبغي ألا ننسى أن الوجود ليس تغيرًا صرفًا فحسب، ولكنه ينطوي أيضًا على عناصر تنزع إلى الإبقاء على القديم. . . فليس في استطاعة أمة أن تتنكر لماضيها تنكرًا تامًا لأن الماضي هو الذي كيف شخصيتها الحاضرة". .

[محمد عبده وتلامذته]

كثيرة هي الأقلام التي تناولت الشيخ محمد عبده (١٢٢٦ - ١٣٢٣ هـ / ١٨٤٩ - ١٩٠٥ م) بالدراسة، وبالنقد والتمحيص لآرائه وأفكاره، وقد بلغت إصلاحاته وآراؤه من الشهرة والذيوع ما يغني عن الدخول في تفصيلاتها. إنما نهتم هنا بالاتجاهات العصرانية عند محمد عبده، والتي تظهر في كتاباته، وبالأخص في تفسيره لبعض الآيات، وفي فتاواه، مما يجعل مدرسته الفكرية تضاهي وتشابه في بعض نواحيها مدرسة سيد أحمد خان في الهند، حتى إن تلميذه رشيد رضا لا يخفي إعجابه بمقالة نشرتها في ذلك الوقت جريدة الرياض الهندية عنوانها "هل ولد السيد أحمد خان ثانية بمصر وظهرت جريدته تهذيب الأخلاق بشكل المنار" (١).

ففي منهجه لتفسير القرآن تتجلى واضحة النزعة إلى تفسير القرآن تفسيرًا يتناسب مع المعارف الغربية السائدة في العصر (٢)، ومن الأمثلة المشهورة لذلك تفسيره لقوله تعالى في سورة الفيل: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤)} [الفيل: ٣، ٤]، بأنها جراثيم الجدري أو الحصبة يحملها نوع من الذباب أو البعوض (٣). وتفسيره لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (٤)} [الفلق: ٤] بأن المراد هنا "النمامون المُقَطِّعون لروابط الألفة"، "لأن


(١) "تاريخ الإمام محمد عبده" رشيد رضا ١/ ٧١٦.
(٢) انظر لتفصيل ذلك: "التفسير والمفسرون" الذهبي ٣/ ٢٣٣ - ٢٤٢، و"منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن" عبد الله شحاتة ص ٨٣ - ١٣٥.
(٣) "الأعمال الكاملة لمحمد عبده" جمع وتحقيق: محمد عمارة ٥/ ٥٢٩.