وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة، وكل ما عنده من حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها، فأول ما يواجه هذا القول من نقد أن يسأل ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قدمت الأدلة على صدقه وأثبتت أنه حقيقة، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها، وهو اعتراف ينقض ما قدمت الأدلة لإثباته، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي أيضًا ولا يمكن القطع والجزم به فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول أن الحقيقة نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وعصورهم؟
والأهم من ذلك أن يسأل هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين، أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه، بل هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة (ذوق)، لا تقوم على منهج علمي محدد، أو معايير منضبطة؟
إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك. قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص، أو قد يحدث خطأ في الفهم، أو يحدث خطأ في الاستنباط، ولكن هذه مسألة أخرى ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف بالدليل والبرهان، أما إطلاق العموميات والقول بأن حقائق الدين مسألة نسبية يدركها كل عصر بحسب المعرفة المتاحة، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية فقول لا تسنده حجة ولا يمكن قبوله.
[محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب]
يحسن بنا بعد المناقشة السابقة لنقاط انطلاق الفكر العصراني التي توجه منهجه في التفكير ونظرته للأمور، أن نتناول محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب التي لا تشترك فيها مع غيرها. وقد قامت حركات التجديد العصراني في اليهودية والنصرانية، كما رأينا في الفصل الخاص بذلك، وسط معارضة شديدة وجوبهت بنقد مر، ولا أرى فائدة كبيرة في تتبع مسائل الخلاف وآراء كل فريق،