وإذا كان القول بأن الفكر يرتبط بالظروف تكتنفه مصاعب ويواجه بالنقد؛ فإن رفض الفكر لمجرد أنه نشأ في عصور ماضية، ولمجرد كونه قديمًا، قول لا صلة له بالعلم وبعيد عن الموضوعية، مهما صدر عمن يتحلى بأفخم الألقاب العلمية. إن الفكر لا يمكن أن يقبل أو يرفض باعتبار الزمان أو المكان الذي ظهر فيه ولكن يرفض إذا قدمت الأدلة على خطئه، فإذا ثبت أن الفكرة صحيحة كانت صحيحة ولو ظهرت في أحقاب ما قبل التاريخ، وإذا ثبت أن الفكرة خاطئة فهي خاطئة ولو أعلنها عباقرة العصر الحاضر.
هل حقائق الدين نسبية؟
إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة -بغض النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها- قالت العصرانية: ولكن إدراك حقائق الدين مسألة نسبية، فليس هناك صواب مطلق و"إن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري".
والكاتب الفاضل الذي قرأت له هذا القول لا يقدم دليلًا أو حجة، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية، وليست نظرة شاملة كاملة، وأن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته، وبحسب اهتماماته والزاوية التي ينظر منها (١).
وقضية النسبية Relativism في الحق truth أو في الأخلاق ethics قضية فلسفية، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن عرف الإنسان الفلسفة وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا، تتعقد وتتشابك الآراء، والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث، وهل استطاعت الفلسفة يومًا ما أن تحل لغزًا؟
وفي بساطة نتساءل: ما المقصود بأن الحقيقة نسبية؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعلمه قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكًا شاملًا، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذه الفترة القصيرة من عمرها على الأرض.
(١) راجع: "الفكر الإسلامي والتطور" محمد فتحي عثمان ص ٣٣٨.