للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والذي يهمني هنا أن أشير بطريقة عامة أين أصابت العصرانية في الغرب وأين أخطأت؟

ويمكن أن نعد من محاسن العصرانية في الغرب الأمور التالية:

الموضع الأول:

الذي أصابت فيه العصرانية في النصرانية وحركة اليهودية الإصلاحية نقدها للتوراة والتلمود والأناجيل، واعترافها بوجود تناقضات واختلافات متعددة فيها وأخطاء، ووصولها إلى أن هذه الكتب ليست بحال هي الكتب الموحاة، بل قد كتبتها أيدٍ بشرية، وخلطت فيها بين الكلمات الموحاة وأقوال الأنبياء وسيرتهم وأقوال الأحبار والقساوسة، ومزجتها مع ذلك كله بالآداب والمعارف السائدة في العصور التي كتبت فيها.

يقول جورج راندال:

"لقد كشفت الدراسة الدقيقة للنصوص من أجل معرفة واضعيها وتواريخ وضع مختلف أقسامها -وهو ما يسمى (بالنقد الأعلى) - عن وجود تباين أساسي مع الاعتقادات التقليدية، فالفوارق في الأسلوب والروايات المتناقضة عن الحادث الواحد والأوامر المتباينة التي يزعم أنها من عند الله، جعلت التوفيق بين النظرة القائلة بأن كل كلمة وكل نقطة إنما هي وحي إلهي حرفي، وبين الإيمان بحكمة الله وتعقله أمرًا في غاية الصعوبة، أما إذا أخذ الكتاب المقدس من جهة ثانية على أنه عمل عقول بشرية، تأثرت تأثرًا عميقًا بحس إلهي في الأشياء، فإن كل صعوبة تزول، وتصبح الكتب المقدسة سجلًا للمحاولات الأسطورية والخيالية الأولى من أجل فهم العالم ومعناه، وللشعر المقدس وللقوانين الدينية والمدنية والمراسلات النبوية المنبعثة عن أرواح نبيلة" (١).

ومما هو واضح أن العصرانية ليست وحدها صاحبة الفضل في مثل هذه الاكتشافات والاعترافات، بل إن الدراسات قد توسعت في هذا المجال في العصر الحديث، وظهرت الانتقادات للتوراة والإنجيل حتى إن مجمع الفاتيكان -أعلى سلطة في الكنيسة الكاثوليكية- اضطر لأن يعترف ولو جزئيًا، بعد


(١) "تكوين العقل الحديث" جورج راندال ٢/ ٢٤٠.