للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حق الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه. وقد شاورهم فيما يكون جامعًا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة، ثم لما جاء عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - وذكر ما رأى في المنام من أمر الأذان فأخذ به، وقال: "ألقها على بلال"، ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي، ألا ترى أنه لما أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال: "الله أكبر هذا أثبت"، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الأذان مما هو من حق الله، ثم جوز العمل فيه بالرأي" (١).

فإذا قيل: إن السُّنَّة غير التشريعية هي التي تصدر عن رأي الرسول من غير وحي، إذ أنها حينئذ صادرة عنه بوصفه بشرًا، فهلَّا قيل أن الأذان من السُّنَّة غير التشريعية؛ لأنه صدر عن رأي من غير وحي، أو هلَّا قيل: إن مسألة مفاداة الأسرى من السُّنَّة غير التشريعية؛ لأن الرسول قد حكم فيها برأيه ثم خطأه الوحي.

ولعله يحسن في هذا المقام أن نبين أنه لا فرق في سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن يأتي بها الوحي أو تصدر عن رأيه، وذلك أنه بخلاف ما يكون من الرأي من غيره من المجتهدين فإن النبي لا يقر على الخطأ. فإذا بيَّن أمرًا من رأيه وأقر عليه كان ذلك صوابًا لا محالة، وصار ذلك بسكوت الوحي عليه وموافقته له ضمنًا، وإقراره عليه، وكأنه صدر من الوحي ابتداء. "والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة -رضي الله عنها- لما جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: "ما أراك إلا قد حرمت عليه"، فقالت: إني أشتكي إلى الله، فأنزل الله تعالى قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: ١] "وبيَّن فيها حكم الظهار" فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع، وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لأنا أمرنا باتباعه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧]، وحين بيَّن بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضًا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق


(١) "أصول السرخسي" ٢/ ٩٣، وحادثة أسارى بدر ثابتة في كتب السُّنَّة ومن ذلك مسلم راجع: "تفسير القرطبي" ٨/ ٤٥، وقصة الأذان ثابتة أيضًا في كتب السُّنَّة، ومنها البخاري ومسلم. راجع: "نيل الأوطار" ٢/ ٣٥.