المبدأ الثاني الذي تحاول العصرانية أن تضع به خطًا فاصلًا بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري، هو مبدأ التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، فتوصف الأولى بالثبات والدوام، وتوصف الثانية بالتغير والتقلب حسب ظروف العصر.
يكتب أحمد أبو المجد عن ذلك فيقول:
"إننا نؤكد ضرورة التمييز بين الشريعة والفقه، فالشريعة هي الجزء الثابت من أحكام الإسلام، الثابت في النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، والفقه تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد مباشرة من النصوص القطعية وقياساتهم عليه، واجتهاداتهم فيما لا نص فيه وترجيحهم بين ما بدا تعارضه من الأدلة، وهو اجتهاد بشر يتفقون ويختلفون وقلمَّا يجتمعون، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ولكنه يعكس حظ كل واحد منهم من المعرفة بالوقائع ومصادر الأحكام، وقواعد التفسير وأصول الترجيح كما يعكس ظروف الزمان والمكان. . . ويعكس بعد ذلك كله رأيه ورؤيته للقيم والمصالح والاعتبارات. . . وهو في ذلك كله يرمز إلى الجزء المتغير من تراث الإسلام. . . وباطل قول من قال: إن الأول لم يترك للآخر شيئًا. . . فقد ترك له عالمًا كاملًا غير عالمه ودنيا غير دنياه. . . وتجربة جديدة لا تغني عنها تجربة قديمة، فتلك أمة قد خلت ولا تسألون عما كانوا يعملون"(١).
أما أن الشريعة تشتمل على نصوص منزلة من عند الله تعالى وعلى تفسير الرجال لتلك النصوص واجتهادهم فيما لا نص فيه فذلك حق لا مراء فيه. أما وصف فقه الرجال بالتغير وعدم الثبات فهو الموضع الذي يحتاج إلى فحص وتأمل. وذلك أن كلمة التغير كلمة تحتمل معانٍ متعددة، فمن الخطأ البين أن يقصد منها اطراح فقه العصور الماضية، والبدء في تدوين فقه عصري جديد. "وإذا قرر الجيل الحاضر أن يعرض عن كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناء جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده
(١) "مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر"، مجلة العربي ص ٢٢، عدد ٢٢٢ مايو ١٩٧٧ م.