"إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام وذلك تبعًا لتغير الأزمان؟
١ - إن جميع الشرائع من قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ جواز النسخ لما في الشريعة من بعض الأحكام، تبعًا لتغير المصلحة في الأزمان. غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغير حكم من الأحكام مادام ذلك الحكم باقيًا في الشريعة ولم ينسخ من قبل من له سلطة الاشتراع.
٢ - وقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة، بالتمييز ما بين المبدأين أولًا وبالأخذ بهما ثانيًا.
فلقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًا خاصًا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به. أما التغيير لحكم لم ينسخ نصه من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين، من قضاة ومفتين تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضًا، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيه درسًا بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، فتعلن بأنه "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" (١).
فعلى رأي الكاتب الفاضل أن الشريعة الإسلامية تمتاز بالمرونة والطواعية في هذه الناحية على غيرها من التشريعات، فتجيز للقاضي أو المفتي تغيير حكم من الأحكام، ولو كان هذا الحكم ثابتًا بنص القرآن أو السُّنَّة، تبعًا لتغير المصالح بتغير الأزمان، مع أن كثيرًا من القوانين قديمًا وحديثًا لا تتميز بهذه المرونة، فلا يمكن لقانون وضعه مجلس تشريعي أن ينقضه أحد كائنًا من كان ولو أحد قضاة المحاكم العليا أو رئيس الوزراء. ويقول أن ذلك أصبح في الإسلام قاعدة فقهية مقررة وهي أنه "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان".
ولتتضح لنا الحقيقة في هذه المسألة لابد من النظر أولًا في هذه القاعدة الفقهية، التي أشار إليها الكاتب، ثم ننظر في الأدلة التي تورد عادة لتعضيد وجهة النظر القائلة بهذه المرونة الواسعة للشريعة الإسلامية، التي لا تدانيها حتى أكثر القوانين العصرية تقدمًا.