للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

". . . ولعمر الحق أنه لو تركت صورة الجهل على حالها تشتد وتثور لا يبعد أن يقوم غدًا رجل منا فيقول: أن لا قضاء في الإسلام فيجوز لكل أحد من الناس أن يدلي برأيه في القانون ولو لم يكن يعرف منه الألف والباء. ويقوم بعده رجل آخر يقول ويعلن: أن لا هندسة في الإسلام، فمن حق كل رجل أن يتكلم في الهندسة ولو لم يكن على أدنى معرفة بمبادئها. ثم يقوم بعده رجل ثالث ويعلن: أن ليس هناك من حاجة إلى حذق مهنة الطب، فيشرع في معالجة المرضى ومداواتهم من غير أن يكون على صلة بالطب".

". . . نعم لا جرم أنه لا كهنوتية في الإسلام ولكن هل يعلم هؤلاء اليوم ما معنى ذلك؟ إنما معناه أن الإسلام ليس كاليهودية حتى ينحصر فيه علم الشريعة والقيام على الخدمات الدينية في وسط من الأوساط، أو قبيلة من القبائل، ولم يفرق فيه -كما في المسيحية- بين الدين والدنيا، فتكون الدنيا للقياصرة ويكون الدين للرهبان والأحبار. ولا ريب -كذلك- أن لا اختصاص لأحد بتفسير القرآن والسُّنَّة والشريعة وأنه لا ينحصر العلماء في سلالة خاصة من السلالات أو أسرة معينة من الأسر، فلا يكون إلا لأفرادها يتوارثونه كابرًا عن كابر، ولهم وحدهم أن يتحدثوا باسم الدين، ويجتهدوا في تعاليمه دون سائر المسلمين. فكما أنه من الممكن لكل أحد من الناس أن يكون محاميًا إذا درس القانون، أو مهندسًا إذا درس الهندسة، أو طبيبًا إذا درس الطب، فكذلك يجوز في الإسلام لكل فرد من أفراد المسلمين إذا درس القرآن والسُّنَّة وصرف جانبًا من أوقاته وجهوده في تلقي علمهما أن يتكلم في مسائل الشريعة، وهذا هو المعنى الصحيح المعقول إن كان هناك معنى لانعدام الكهنوتية في الإسلام".

"ليس معناه أن الإسلام كالألعوبة في أيدي الأطفال يجوز لكل من شاء من الناس أن يعبث بأحكامه وتعاليمه ويصدر فيها آراءه، كما هو الشأن في أقضية أعلام المجتهدين وفتاواهم، ولو لم يكن قد بذل أدنى سعي في فهم القرآن والسُّنَّة والتبصر فيهما. وإذا لم يكن مقبولًا ولا معقولًا أن يدعي المرء أنه مرجع في أمر من أمور الدنيا من غير علم به، فما بالنا إذن نقبل في أمر الدين ادعاء هؤلاء القوم الذين يتكلمون فيه من غير معرفة بأصوله ومبادئه" (١).


(١) "نظرية الإسلام وهديه في السياسة" المودودي ص ٢٤٤.