للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

"قد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف، وأن أوله التعريف، وثانيه الوعظ، وثالثه التخشين في القول، ورابعه المنع بالقهر، فالحمل على الحق بالضرب والعقوبة. والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان وهما التعريف والوعظ، وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان، فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر. وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه، فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة، والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذلك شهادة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله فقتله على ذلك" (١).

ثم حكى حوادث كثيرة عن السلف وأمثلة من مواجهتهم للحكام، وختم هذا المبحث بكلمات لاذعة سخر فيها من صمت العلماء في عصره، وأكد أن ذلك الصمت هو سبب الظلم الواقع من السلطة الحاكمة، مع تقديم تحليل لأسباب ودوافع هذه السلبية، فيقول تعقيبًا على مواقف السلف من الحكام:

"فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين، لكونهم اتكلوا على فضل الله أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثّر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها، وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا الحق لأفلحوا".

ثم يقول:

"ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر، والله المستعان على كل حال" (٢).


(١) "إحياء علوم الدين" الغزالي ٢/ ٣٣٧.
(٢) المصدر نفسه ٢/ ٣٥١.