عندما يتحرك رجل الفطرة، ويأخذ طريقه لكي يصبح رجل حضارة، فإنه لا زاد له- كما بيّنا- سوى التراب، والوقت، وإرادته لتلك الحركة.
وهكذا لا يتاح لحضارة في بدئها رأسمال، إلا ذلك الرجل البسيط الذي تحرك، والتراب الذي يمده بقُوتِه الزهيد، حتى يصل إلى هدفه، والوقت اللازم لوصوله.
وكل ما عدا ذلك من قصور شامخات، ومن جامعات وطائرات، ليس إلا من المكتسبات، لا من العناصر الأولية.
والمجتمع الإنساني يمكنه أن يستغني وقتا ما عن مكتسبات الحضارة، ولكنه لا يمكنه أن يتنازل عن هذه العناصر الثلاثة، التي تمثل ثروته الأولية، دون أن يتنازل في الوقت نفسه عن جوهر حياته الاجتماعية.
وقد تحقق هذا حين كانت الدول المتقاتلة في الحرب الأخيرة لا تقوِّم خسارتها في الحرب بالذهب والفضة، بل بساعات العمل، أي بقيم من الوقت، ومن الجهود البشرية، ومن منتجات التراب، وهكذا كلما أصبح المكتسب غير كاف، أو حالت دون الحصول عليه عقبات، وكلما دقت ساعة الخطر، وأذنت بالرجوع إلى القيم الأساسية، تستعيد الإنسانية مع عبقريتها، قيمة الأشياء البسيطة التي كونت عظمتها ..
تلك هي القيم الخالدة. التي نجدها كلما وجب علينا العودة إلى بساطة الأشياء، أي في الواقع كلما تحرك رجل الفطرة، وتحركت معه حضارة في التاريخ.