كنا قد بينا في الفصل السابق الذي جعلنا عنوانه "من التكديس إلى البناء" دور الفكرة الدينية حينما تدخل كمركب ( Catalyseur) في التركيب البيولوجي لإحدى الحضارات. وذلك باستنادنا إلى حد ما على أفكار "كيسرلنج" وعلى معطيات التاريخ بصورة عامة.
غير أن هذا التفسير التاريخي قد بدا غير كاف لدى قراء الطبعة الأولى لهذا الكتاب. ولهذا فقد طلب مني بعضهم- والطلبة على وجه أخص- أن أفرد تحليلا أعمق تقصيا لجوانب الموضوع في طبعة ثانية للكتاب.
وبودي أن أعرب لهؤلاء الذين أبدوا هذه الملاحظة عن تقديري لهم. لأنها تكشف عن مدى تحمسهم لمشاكل الحضارة. وهو تحمس لا شك يشرف هؤلاء الشباب من رواد الأمة.
من أجل هذا وضعت هذا الفصل ورأيت من واجبي أن أعيد فيه دراسة هذه المشكلة دراسة لا تقصر على المعطيات التاريخية وإنما هي تهتم أيضا بمقاييس التحليل النفسي. ذلك ان المنهج الذي يتناول واقعة الحضارة لا على انها سلسلة من الأحداث يعطينا التاريخ قصتها، بل كـ"ظاهرة" يرشدنا التحليل إلى جوهرها، وربما يهدينا إلى "قانونها" أي إلى سنة الله فيها، هو القادر، فيما اعتقد، على أن يستجلي لنا بطريقة أوضح، الدور الايجابي الفعال للفكرة الدينية في تركيب تلك الواقعة. إذ يوضح لنا كيف تشرط هذه الفكرة سلوك الفرد وكيف هي تنظم غرائزه تنظيما عضويا في علاقتها الوظيفية ببناء إحدى الحضارات.
وبتعبير آخر إن المسألة هنا هي أن نوضح للقارىء كيف يتاح "للفكرة