للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الدينية" (١) أن تبني الإنسان حتى يقوم بدوره في بناء الحضارة وبالتالي كيف يتاح لهذه الفكرة ذاتها أن تمدنا بتفسير عقلي لدور إِحدى الديانات في توجيه التاريخ.

فما هي إذن الحدود التي تقف عندها الفكرة الدينية في تفسيرها للوقائع التاريخية؟

لقد اهتم معظم المؤرخين- ابتداء من توسيديد ( Thucydide) حتى "جيزو" ( juizot) بتجميع الوقائع التاريخية بدل أن يهموا بالبحث في تفسير عقلي لهذه الوقائع في إطار معين. فلما جاء جيزو بدأ علم المؤرخ بفضل "عصر النور" يأخذ عنده صبغة علمية معينة. ومع ذلك فقد وجدنا لدى هذا المؤرخ الفرنسي الكبير نوعا من التحفظ الديكارتي يحول بينه وبين صياغة تفكيره الخاص في صورة منهجية مكتملة.

أما ابن خلدون، فقد تمكن من قبل من اكتشاف منطق التاريخ في مجرى أحداثه، فكان بهذا المؤرخ الأول الذي قام بالبحث عن هذا المنطق إذا لم نقل أنه قد قام بصياغته فعلاً. فقد كان يمكن أن يكون أول من أتيح له أن يصوغ قانون الدورة التاريخية ( La Loi du Cycle) لولا أن مصطلح عصره قد وقف به عند ناتج معين من منتوجات الحضارة ونعني به- الدولة- وليس عند الحضارة نفسها.

وهكذا لم نجد فيما ترك ابن خلدون غير نظرية عن تطور الدولة. في حين أنه كان من الأجدى لو أن نظريته رسمت لنا تطور الحضارة، حيث كنا نستطيع أن نجد فيها ثروة من نوع آخر، غير ذلك الذي أثرانا به فعلاً. إِذ لم تكن عبقرية ابن خلدون بعاجزة عن أن ترسم لنا ذلك التطور في صورة منهج قائم بذاته. ولقد كان القرن التاسع عشر هو القرن الذي ولدت فيه أول تفسيرات الواقعة الاجتماعية في إطار ظاهرة معينة هي "الحضارة" غير أن ماركس ومدرسته


(١) بالتعميم الذي قصدناه في فصل سابق.

<<  <   >  >>