بعد حين يحسبونه قد تبدل بشيء آخر، وما هو في الحقيقة إلا الشيء نفسه، تنكر لهم في مظهره الجديد.
وإن شبابنا لينظرون إلى المدنية الغربية في يومها الحالي، ويضربون صفحا عن أمسها الغابر، حيث نبتت أولى بذورها، وتلونت في تطورها ونموها ألوانا مختلفة، وما فتئت تتلون عبر السنين حتى استوت على لونها الحاضر فحسبناها نباتا جديدا.
ولو أننا تناولنا بالدراسة مشروعا اجتماعيا، كجمعية حضانة الأطفال في فرنسا على سبيل المثال، لبدا لنا من أول نظرة في صورة جمعية تقوم على شؤونها دولة مدنية، فنحكم إذا عليها بأنها مؤسسة نشأت في بادىء أمرها على أسس مدنية (لا دينية)! .. في حين لو درسنا تاريخها، ورجعنا إلى أصول فكرتها الأولى، لوجدناها ذات أصل مسيحي، فهي تدين بالفضل إلى القديس (فانسان دي بول) الذي أنشأ مشروع الأطفال المشردين، خلال النصف الأول من القرن السابع عشر.
غير أن نظرتنا العابرة هذه، جعلتنا ننظر إليه وكان تاريخه قد ابتدأ من يوم ان التفتت أنظارنا اليه، فاعرناه بعض اهتمامنا في صورته الطارئة لا في جوهره وهذا شان شبابنا في نظرتهم إلى الأشياء، فإن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد، لولا صلات اجتماعية خاصة، لا تتصور هذه الصناعات والفنون بدونها، فى الأساس الخلقي، الذي قام عليه صرح المدنية الغربية، في علومه وفنونه، بحيث لو ألغينا ذلك الأساس لسرى الإلغاء على جميع ما نشاهده اليوم من علوم وفنون، فلو أخذنا جهاز الراديو مثلا لرأينا فيه مجهودات علمية وفنية مختلفة، دون أن يخطر ببالنا أثر القيم المسيحية في بناء هذا الجهاز، على حين أنه في الواقع أثر من آثار العلاقات الاجتماعية الخاصة، التي وحدت جهودا مختلفة (لهرتز) " Hertz" الألماني،