الأعيان، وفى الحديث من الحُفَّاظ، وفى التاريخ من المتوسِّعين، ولديه فقهٌ كافٍ" (١).
وقد عَلَتْ شهرةُ ابن الجوزى فى الوعظ والتذكير، وقد حضر بعضَ مجالسِه فى الوعظ الرحَّالة ابن جُبَير، المتوفى سنة ٦١٤، وقد وصف مجلسًا من مجالسه فى شهر صفر سنة ٥٨٠، فقال: "ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد جمال الدين أبى الفضائل بن على الجوزىّ. . . . فشاهَدْنا مجلسَ رجل ليس من عمرٍو ولا زيد، وفى جوف الفراكلُّ الصَّيد، آية الزمان، وقُرَّة عين الإيمان، رئيس الحنبليّة، والمخصوص فى العلوم بالرُّتَب العليّة. . . . ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر، ويبتدئ القُرّاء بالقرآن، وعددُهم نيِّف على العشرين قارئًا، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آيةً من القراءة يتلونها على نَسَقٍ بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أُخرى على عددهم آيةً ثانية، ولا يزالون يتناوبون آياتٍ من سُورٍ مختلفات، إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتَوْا بآيات مشتبهات، لا يكاد المتّقد الخاطر يحصّلها عددًا، أو يُسمّيها نَسَقًا.
فإذا فرغُوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن فى إيراد خُطبته، عَجِلًا مُبتَدِرًا، وأفرغ فى أصداف الأسماع من ألفاظه دُرَرًا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات فى أثناء خُطبته فِقَرًا، وأتى بها كل نَسَق القراءة لها، لا مقدِّمًا ولا مؤخّرًا. ثم أكمل الخطبة على قافيةِ آخِرِ آية منها.
فلو أنَّ أبْدَعَ مَن فى مجلسِه تكلَّف تسمية ما قرأ القُرّاءُ آيةً على الترتيب لَعَجِزَ عن ذلك، فكيف بمَنْ ينتظمها مُرتَجلًا، ويُورد الخُطبةَ الغَرَّاء بها عَجِلًا! {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ}[الطور: ١٥]{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}[النمل: ١٦]- فحدِّثْ ولا حَرَج عن البحر، وهَيْهات، ليس الخَبَر عنه كالخُبْر.