للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برَقائقَ من الوعظ، وآياتٍ بيِّنات من الذِّكر، طارتْ لها القلوب اشتياقا، وذابت بها الأنفُس احتراقًا، إلى أن علا الضَّجيج، وتَردَّد بشهقاته النَّشيج، وأعلن التائبون بالصِّياح، وتساقطوا عليه تساقطَ الفَراش على المصباح، كلٌّ يُلقِى ناصيتَه بيده فيجزّها، ويَمْسَح على رأسه داعيًا له، ومنهم مَنْ يُغْشَى عليه فيُرفَع فى الأذرُع إليه، فشاهَدْنا هَوْلًا يملأ النفوسَ إنابةً وندامة، ويذكّرها هولَ يوم القيامة" (١).

وبرغم هذه الشهرة العريضة التى استحقّها ابنُ الجوزى بعِلْمِه ووعظِه وكثرةِ تصانيفه، فإن الحياة لم تَصْفُ، له، وابتُلى بمِحْنتَيْن:

الأولى: أن بعض الرافضة وشى به إلى الخليفة الناصر، وكان الناصر يميل إلى الشِّيعة، ولم يكن له ميلٌ إلى ابن الجوزى، فلَمَّا وَشَوْا به إليه أرسل من شتمه وأهانه وأخذه قَبْضًا باليد، وخَتَم على داره، وشتَّت عيالَه، ثم حُمِل إلى سفينة ونُفِىَ إلى مدينة واسط، فحُبس بها فى بيتٍ حَرِجٍ ضَيّق، وكان فى أثناء ذلك الحَبْس يخدُم نفسه، ويَغْسِلُ ثوبه، ويطبخ، ويستقى الماء من البئر (٢)، وكانت هذه المحنة من سنة ٥٩٠ إلى سنة ٥٩٥، فكانت غاشيةً من الغواشى أطبقت عليه وهو فى الثمانين من عُمرِه، ولم يَعشْ بعدها سوى عامين.

والمحنة الثانية: كانت فى ولدٍ له يُسَمَّى "عليًّا" أخذ مصنَّفاتِ والدِه وباعها بَيْعَ العَبيد، ولمَن يزيد، ولمَّا أُحْدِر والدُه إلى واسط، تحيَّل على الكُتُب بالليل، وأخذ منها ما أراد، وباعَها ولا بثمن المِداد، وكان أبوه قد هجره منذ سنين، فلما امتُحِن صار حَرْبًا عليه (٣).

وفى ليلة الجمعة، بينَ العشاءين، الثالث عشر من رمضان سنة ٥٩٧، توفى ابن الجوزى، بعد مَرَضٍ لم يَدُمْ أكثر من خمسة أيام، وكان يوم جنازته


(١) رحلة ابن جبير ص ١٩٦ - ١٩٨، وذكر له مجلسًا آخر.
(٢) سير أعلام النبلاء ٢١/ ٣٧٦، والذيل على طبقات الحنابلة ١/ ٤٢٦.
(٣) المرجعين السابقين ص ٣٨٤، ٤٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>