للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ووجه الإغراء في الدنيا والاغترار بها أنَّ فيها مباهج وملذات يحسّ بها الإنسان بجميع حواسِّه، وتهواهاه نفسه بطبيعها، وتؤثرها على ما سواها، {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} ١، فإذا تركت النفس وشأنها زاد تعلقها والتصاقها به، حتى تصبح هي كل غايتها، ومنتهى أملها، ومبلغ علمها، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} ٢، وإذا مات وصلت النفس إلى هذا الحدِّ فقدت حاسَّة القبول والاعتبار، وعند ذلك لا يجدي معها وعظ ولا تذكير، وبالتالي وبالبداهة لا يصلح صاحب هذه النفس أن يكون داعيًا إلى الله.

فما هو العلاج لتخليص القلب من أسر الدنيا وتعلقه بها؟ العلاج في ذلك: تيقُّن زوال الدنيا ومفارقتها، وتيقُّن لقاء الآخرة وبقاءها، ثم يقارن بين الأمرين، فيؤثر الآخرة على الدنيا، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ٣، وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} ٤، {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} ٥، وأن يحضر في ذهنه هذا الذي تيقنه. وهذه الغاية واستحضارها في الذهن لا تكفي وحدها، بل لا بُدَّ من قطع التسويف وطول الأمل حتى يحسّ بالغربة في هذه الدنيا، وأنَّه قد يرحل عنها في أية ساعة، قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أصبحت فلا تحدِّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدِّث نفسك بالصباح"، وقال -عليه الصلاة والسلام: "مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلّا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها".

وإذا وسوس له الشيطان وألقى في روعه أنَّه شابٌّ قوي موفور الصحة والعافية، فليطرد وسواسه باستحضار الشباب الذين رحلوا وهم الآن تحت الثرى، وإذا لجَّ الشيطان في وسوسته فليخرج إلى المقابر ويستنطق الراقدين: كم فيهم من الشباب الذين شربوا كأس الموت مبكرين، ثم ليرجع إلى محلته، وليعد شيوخ وكهول بلده، فسيجدهم


١ سورة القيامة، الآية: ٢٠، ٢١.
٢ سورة النجم، الآية: ٢٩، ٣٠.
٣ سورة القصص، الآية: ٦٠.
٤ سورة النساء، الآية: ٧٧.
٥ سورة النحل، الآية: ٩٦.

<<  <   >  >>