قيم الجوزية في مدارجه، ويكون في القصد والقول والعمل، ومعناه في القصد: كمال العزم وقوة الإرادة على السير إلى الله وتجاوز العوائق، ويكون ذلك بالمبادرة إلى أداء ما افتراضه الله عليه، وفي مقدمته الجهاد في سبيله، ومنه: الدعوة إلى الله، والصدود عن كل معوّق أو مثبِّط، والانصراف عنهم والنفرة منهم؛ لأنهم أناس في غفلة يعيشون، ولا يعلمون إلّا ظاهرًا من الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم، وهو في حقيقته الجهالة والهوى. والحقيقة أنَّ قلب الصادق شديد الحساسية لا يحتمل هؤلاء المثبطين، ولهذا فهو يضيق بهم، ولا يستطيع مجاورتهم ولا مصاحبتهم ولا مجالستهم، إنَّه ينشرح صدره ويهِشُّ لمن يشوقه إلى الإسراع في سيره إلى الله والدعوة إليه، أمَّا صدق القول فمعناه: نطق اللسان بالحق والصواب فلا ينطق بالباطل، أيّ باطلٍ كان، ويكون الصدق في الأعمال بأن تكون وفق المناهج الشرعية والمتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، وإذا ما تحقَّق للمسلم الصدق في القول والقصد والعمل أدَّى به ذلك إلى درجةٍ أخرى في الصديقية، وهي التي أمر الله عباده المؤمنين بطلبها، موجِّهًا -جلَّ جلاله- الخطاب إلى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} ومعنى مدخل الصدق ومخرجه أن يكون دخول المسلم في أي شيء، ومباشرته لأيِّ عمل، وخروجه منه وتركه له بالله ولله، بمعنى أنَّ أفعاله وتروكه موصولة بالله وموصولة إليه، مستعينًا على أدائها بالله، ومقصوده مرضاة الله، فغايته هي الله وحده {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فإذا بلغ المسلم هذه الدرجة من الصديقية لم يعد في نظره غرض مقبول لرغبته في الحياة إلّا إذا كان بقاؤه فيها وسيلة لمرضاة الله، فإذا فاته هذا الغرض أو لم يستطعه رَغِب عن الحياة وأحبَّ الموت.
روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنَّه قال:"لولا ثلاث لما أحببت البقاء، لولا أن أحمل جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر، ويريد الإمام عمر بهذه الثلاث التي ذكرها: الجهاد والصلاة والعلم النافع، وكلها ترضي الرب -عز وجل"١.