للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه"١ ويلاحظ في هذه العزلة شيئان:

الأول: أن تكون في الأوقات التي نَدَب الشرع فيه إلى نوعٍ معين من العبادة، كالاعتكاف في رمضان، وقيام الليل والصلاة فيه، والجلوس في المساجد انتظارًا للصلاة، فإنَّ في هذه الأوقات والقيام فيها بعبادة الله بالصلاة والذكر والدعاء نوعًا ممتازًا من العزلة والخلوة المشروعة، وهي على قِصَرها ذات أثر بليغ جدًّا.

الثاني: إذا احتاج الداعي إلى عزلة أكثر مما ورد في النوع الأول، كأن يخلو في مبيته أيامًا؛ لِمَا يحسه من حاجة إلى هذه الخلوة للراحة والاستجمام ومراجعة الحساب مع نفسه، وتدارك ما فاته، فلا بأس في ذلك، بشرط أن يكون قصده من ذلك إعداد نفسه وتهيئتها إلى المزيد من الدعوة إلى الله، فيكون مثله في هذه الحالة مثل المجاهد الذي يتحوّل عن ميدان القتال ليشحذ سيفه، أو يعلف فرسه، أو يصلح رمحه، أو يداوي جرحه، وقلبه معلق بالجهاد، ونيته الرجوع إليه من قريب، فهو في جهاد في الحالتين، والأعمال بالنيات، والله المستعان.

٥٨٤- هذا وإنَّ للداعي عزلة أخرى من نوعٍ آخر، وهي غياب فكره عن الحاضرين مع بقاء جسمه معهم، وهذه العزلة يحتاجها كُلَّما وجد نفسه مضطرًا بين قوم سوء، ومجلس غيبة، وكلام باطل لا يستطيع الخروج منه، ولا تحويل مجراه الخبيث، فيغيب عنه بروحه، ويبقى جسده معهم.

٥٨٥- وهناك عزلة ثالثة للداعي، وهي مفارقة الكفرة والتحوّل عنهم إلى غيرهم، إذا بدا له أنَّ بذل الجهد معهم عبث أو لا يجدي، أو أنَّ احتمال إجابتهم في الوقت الحاضر احتمال ضعيف، أو أنَّ أذاهم لا يطاق، فيتحول عنهم إلى غيرهم ويوجِّه جهده إليهم، فيدعوهم إلى الله تعالى؛ لأنَّ جهد الداعي محدود، ووقته محدود، فإذا لم يجد الإجابة عند قومٍ تحوَّل إلى غيرهم، واعتزل الأوَّلين، وله أن يعتزل الجميع إلى حين، وقد يستأنس لهذا بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم -عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وبقوله تعالى حكاية عن موسى -عليه السلام: {وَإِنْ لَمْ


١ مجموع الفتاوى، ج١، ص٦٣٧.

<<  <   >  >>