للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} وقال -صلى الله عليه وسلم: "خير الأمور أوسطها".

١٠٦- والاعتدال مطلوب حتى في العبادات، فلا ينبغي للمسلم أن يرهق نفسه أو يؤذي جسده، يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس -رضي الله عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، قالوا: أين نحن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر؟ قال أحدهم: أمَّا أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنِّي أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

١٠٧- وتعذيب الجسد وتحميله ما لا يطيق ليس من مناهج الإسلام ووسائله لبلوغ الكمال المنشود؛ إذ ليس من لوازم هذا الكمال أو مقتضياته فعل ذلك، ولا من مقاصد الإسلام تعذيب الجسد، لا قصد الغايات ولا قصد الوسائل، ومن ظنَّ ذلك فهو واهم، فإن مثالية الإسلام يمكن بلوغها بنهجٍ معتدل وسير مريح، وإن الخروج عن هذا النهج يضعف الجسد ويقعد به عن أداء الفرائض فضلًا عن النوافل، ومن خرج من هذا النهج وجب رده إليه، جاء في الحديث أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا قائمًا في الشمس، فسأل عنه فقالوا: يا رسول الله، إنه نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم. فقال -عليه الصلاة والسلام: "مروه فليتكلم وليقعد وليتمَّ صومه"، فالصوم مطلوب، ولكنَّ الوقوف في الشمس حيث يمكن الوقوف في الظل غير مطلوب، ولا معنى فيه، وكذلك الصمت الدائم طيلة النهار لا داعي له ولا فائدة فيه، وسِرّ المسألة أنَّ الجسد مركب الروح، وليس من الحكمة خرق المركب أو إضعافه، والجسد مستقرّ الروح ومسكنها، وليس من المصلحة تخريبه، ولا من الكمال المنشود هضمه حقه، وأنَّ الروح هي الأخرى لها حق في الراحة والاستجمام، لا يجوز التفريط فيه، جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس -رضي الله عنه، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: "ما هذا"؟ قالوا: حبل

<<  <   >  >>