للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ابْنُهُ أَمَرَ بِذَلِكَ الْمَاءِ فَتَزَحَّمَ بِالْمُسْنَيَاتِ حَتَّى عَادَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَرْضِ إلَى عِمَارَتِهَا، وَكَانَتْ عَلَى ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ إلَى كِسْرَى رَسُولًا، وَهُوَ كِسْرَى أَبْرِوِيزُ، فَزَادَتْ دِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، فَانْبَثَقَتْ بُثُوقًا عِظَامًا اجْتَهَدَ أَبْرِوِيزُ فِي سُكْرِهَا حَتَّى صَلَبَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعِينَ سُكَارَى، وَبَسَطَ الْأَمْوَالَ عَلَى الْأَنْطَاعِ فَلَمْ يَقْدِرْ لِلْمَاءِ عَلَى حِيلَةٍ، ثُمَّ وَرَدَ الْمُسْلِمُونَ الْعِرَاقَ وَتَشَاغَلَتِ الْفُرْسُ بِالْحُرُوبِ، فَكَانَتِ الْبُثُوقُ تَنْفَجِرُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، وَيَعْجَزُ الدَّهَاقِونُ عَنْ سَدِّهَا فَاتَّسَعَتِ الْبَطِيحَةُ وَعَظُمَتْ، فَلَمَّا وُلِّيَ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَلَّى مَوْلَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَرَّاجٍ خَرَاجَ الْعِرَاقِ، فَاسْتَخْرَجَ لَهُ مِنْ أَرْضِ الْبَطَائِحِ مَا بَلَغَتْ غَلَّتُهُ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَخْرَجَ بَعْدَهُ حَسَّانُ النَّبَطِيُّ لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَعْدِهِ كَثِيرًا مِنْ أَرْضِ الْبَطَائِحِ، ثُمَّ جَرَى النَّاسُ عَلَى هَذَا إلَى وَقْتِنَا، حَتَّى صَارَتْ جَوَامِدُهَا مِثْلَ بَطَائِحِهَا وَأَكْثَرَ، وَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ مَا شَرَحْنَاهُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَطَائِحِ عُذْرًا دَعَاهُمْ إلَيْهِ مَا شَاهَدُوا الصَّحَابَةَ عَلَيْهِ مِنْ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا أُحْيِيَ مِنْ مَوَاتِ الْبَصْرَةِ أَرْضُ عُشْرٍ، وَمَا ذَاكَ لِعِلَّةٍ غَيْرِ الْإِحْيَاءِ.

وَأَمَّا حَرِيمُ مَا أَحْيَاهُ مِنَ الْمَوَاتِ لِسُكْنَى أَوْ زَرْعٍ فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُعْتَبَرٌ بِمَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ تِلْكَ الْأَرْضُ مِنْ طَرِيقِهَا وَفِنَائِهَا وَمَجَارِي مَائِهَا وَمَغِيضِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَرِيمُ أَرْضِ الزَّرْعِ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَاؤُهَا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَرِيمُهَا مَا انْتَهَى إلَيْهِ صَوْتُ الْمُنَادِي مِنْ حُدُودِهَا، وَلَوْ كَانَ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ لَمَا اتَّصَلَتْ عِمَارَتَانِ، وَلَا تَلَاصَقَتْ دَارَانِ، وَقَدْ مَصَّرَتِ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- الْبَصْرَةَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَعَلُوهَا خُطَطًا لِقَبَائِلِ أَهْلِهَا، فَجَعَلُوا عَرْضَ شَارِعِهَا الْأَعْظَمِ، وَهُوَ مِرْبَدُهَا سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَجَعَلُوا عَرْضَ مَا سِوَاهُ مِنَ الشَّوَارِعِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَجَعَلُوا عَرْضَ كُلِّ زُقَاقٍ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلُوا وَسَطَ كُلِّ خُطَّةٍ رَحْبَةً فَسِيحَةً لِمَرَابِطِ خَيْلِهِمْ وَقُبُورِ مَوْتَاهُمْ، وَتَلَاصَقُوا فِي الْمَنَازِلِ، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إلَّا عَنْ رَأْيٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَنَصٍّ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ.

وَقَدْ رَوَى بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إذَا تَدَارَأَ الْقَوْمُ فِي طَرِيقٍ فَلْيَجْعَلْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ" ١.


١ صحيح: رواه البخاري في كتاب المظالم والغصب "٢٤٧٣"، ومسلم في كتاب المساقاة "١٦١٣".

<<  <   >  >>