للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والقول الثاني: أن حمى الأئمة بعده جائز كجوازه له؛ لأنه كان يفعل ذلك لصلاح المسلمين لا لنفسه، فكذلك مَنْ قام مقامه في مصالحهم، قد حمى أبو بكر -رضي الله عنه- بالربذة لأهل الصدقة، واستعمل عليه مولاه أبا سلامة.

وحمى عمر -رضي الله عنه- من الشرف مثل ما حماه أبو بكر من الربذة، وولى عليه مولًى له يقال له: هني، وقال: يا هني ضمَّ جناحك عن الناس، واتَّقِ دعوة المظلوم فإنَّ دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبالك، فالكلأ أهون عليَّ من الدينار والدرهم، والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا١.

فأمَّا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا حمى إلَّا لله ولرسوله"، فمعناه: لا حمى إلَّا على مثل ما


= برعي بهائم الصدقة مثلًا، وأصل الحمى عند العرب أنَّ الرئيس منهم كان إذا نزل منزلًا مخصبًا استعوى كلبًا على مكان عالٍ، فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو من غيره فيما سواه، والحمى هو المكان المحمي وهو خلاف المباح، ومعناه: أن يمنع من الإحياء من ذلك الموات؛ ليتوفر فيه الكلأ، فترعاه مواش مخصوصة ويمنع غيرها، والأرجح عند الشافعية أن الحمى يختص بالخليفة، ومنهم من ألحق به ولاة الأقاليم، ومحل الجواز مطلقًا أن لا يضر بكافة المسلمين، واستدلَّ به الطحاوي لمذهبه في اشتراط إذن الإمام في إحياء الموات. [انظر: فتح الباري: ٥/ ٤٤] .
١ قال الشافعي في معني قول عمر: إني قد ظلمتهم، إنَّها لبلادهم قاتوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، إنهم يقولون: إن منعت لأحد من أحد فمن قاتل عليها وأسلم أولى أن تمنع له، وهذا كما قال: لو كانت تمنع لخاصة فلما كان لعامة لم يكن في هذا -إن شاء الله- مظلمة. وقول عمر: لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين بلادهم شبرًا، إني لم أحمها لنفسي ولا لخاصَّتي، وإني حميتها لمال الله أحمل عليه في سبيل الله، وكانت من أكثر ما عنده مما يحتاج إلى الحمى، فنسب الحمى إليها لكثرتها.
وقد أدخل الحمى خيل الغزاة في سبيل الله، فلم يكن ما حمي ليحمل عليه أولى بما عنده من الحمى مما تركه أهله، ويحملوه عليها في سبيل الله؛ لأنَّ كلًّا لتعزيز الإسلام، وأدخل فيها إبل الضوالّ؛ لأنها قليل لعوام من أهل البلدان، وأدخل فيها ما فضل من سهمان أهل الصدقة من إبل الصدقة، وهم عوام من المسلمين يحتاجون إلى ما جعل لهم مع إدخاله من ضعف عن النجعة ممن قلَّ ماله، وفي تماسك أموالهم عليهم غنًَى عن أن يدخلوا على أهل الفيء من المسلمين، وكل هذا وجه عام النفع للمسلمين. [الأم: ٤/ ٤٨] .

<<  <   >  >>