حماه الله ورسوله للفقراء والمساكين ولمصالح كافَّة المسلمين؛ لا على مثل ما كانوا عليه في الجاهلية من تفرُّد العزيز منهم بالحمى لنفسه، كالذي كان يفعله كليب بن وائل؛ فإنه كان يوافي بكلب على نشاز من الأرض، ثم يستعديه ويحمي ما انتهى إليه عواؤه من كل الجهات، ويشارك الناس فيما عداه، حتى كان ذلك سبب قتله، وفيه يقول العباس بن مرداس "من الطويل":
كما كان يبغيها كليب بظلمه ... من العز حتى طاح وهو قتيلها
على وائل إذ يترك الكلب نابحًا ... وإذ يمنع الأقناء منها حلولها
وإذا جرى على الأرض حكم الحمى استبقاء لمواتها سابلًا ومنعًا من إحيائها ملكًا روعي حكم المحمي، فإن كان للكافَّة تساوى فيه جميعهم من غنيّ وفقير ومسلم وذمي في رعي كلئهم بخيلهم وماشيتهم، فإن خص به المسلمون اشترك فيه أغنياؤهم وفقراؤهم، ومنع منهم أهل الذمة؛ وإن خص به الفقراء والمساكين منع منه الأغنياء وأهل الذمة، ولا يجوز أن يخص به الأغنياء دون الفقراء، ولا أهل الذمة دون المسلمين، وإن خص به نعم الصدقة أو خيل المجاهدين لم يشركهم فيه غيرهم، ثم يكون الحمى جاريًا على ما استقرَّ عليه من عموم وخصوص، فلو اتَّسع الحمى المخصوص لعموم الناس جاز أن يشتركوا فيه؛ لارتفاع الضرر عمَّن خص به، ولو ضاق الحمى العام عن جميع الناس لم يجز أن يختص به أغنياؤهم، وفي جواز اختصاص فقرائهم به وجهان، وإذا استقرَّ حكمٌ لحمًى على أرض فأقدم عليها من أحياها ونقض حماها روعي الحمى، فإن كان مما حماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان الحِمَى ثابتًا والإحياء باطلًا والمتعرّض لإحيائه مردودًا مزجورًا، لا سيما إذا كان سبب الحمى باقيًا؛ لأنه لا يجوز أن يعارض حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنقض ولا إبطال.
وإن كان من حمى الأئمة بعده ففي إقرار إحيائه قولان:
أحدهما: لا يقر ويجري عليه الحمى كالذي حماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حكم نفذ بحق.
والقول الثاني: يقر الإحياء ويكون حكمه أثبت من الحمى؛ لتصريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-