الْمُصَابَرَةِ سَبِيلًا أَنْ يُوَلِّيَ عَنْهُمْ غَيْرَ مُتَحَرِّفٍ لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ إلَى فِئَةٍ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ مِثْلَيْهِ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْقَتْلِ فِي جَوَازِ انْهِزَامِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ عَنْهُمْ مُنهَزِّمًا وَإِنْ قُتِلَ لِلنَّصِّ فِيهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ نَاوِيًا أَنْ يَتَحَرَّفَ لِقِتَالٍ، أَوْ يَتَحَيَّزَ إلَى فِئَةٍ لِيَسْلَمَ مِنَ الْقَتْلِ، وَمَا ثَمَّ خِلَافٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمُصَابَرَةِ فَلَيْسَ يَعْجَزُ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا اعْتِبَارَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ وَالنَّصُّ فِيهِ مَنْسُوخٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ مَا أَمْكَنَهُ، وَيَنْهَزِمَ إذَا عَجَزَ وَخَافَ الْقَتْلَ، وَالثَّانِي أَنْ يَقْصِدَ بِقِتَالِهِ نُصْرَةَ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِبْطَالِ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: ٣٣] .
فَيَكُونُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ حَائِزًا لِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُطِيعًا لَهُ فِي أَوَامِرِهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَمُسْتَنْصِرًا بِهِ عَلَى عَدُوِّهِ؛ لِيَسْتَهِلَّ مَا لَقِي؛ فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَبَاتًا وَأَبْلَغَ نِكَايَةً، وَلَا يَقْصِدُ بِجِهَادِهِ اسْتِفَادَةَ الْمَغْنَمِ فَيَصِيرُ مِنَ الْمُكْتَسِبِينَ لَا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا جَمَعَ أَسْرَى بَدْرٍ وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا بَعْدَ أَنْ قَتَلَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ مِثْلَهُمْ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِيهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُقْتُلْ أَعْدَاءَ اللَّهِ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ وَرُءُوسَ الضَّلَالَةِ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ عَشِيرَتُكَ وَأَهْلُكَ، تَجَاوَزْ عَنْهُمْ يَسْتَنْقِذْهُمْ اللَّهُ بِكَ مِنَ النَّارِ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ قَبْلَ الْأَسْرَى بِيَوْمٍ، فَمِنْ قَائِلٍ: الْقَوْلُ مَا قَالَهُ عُمَرُ، وَمِنْ قَائِلٍ: الْقَوْلُ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: "مَا قَوْلُكُمْ فِي هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ؟ إنَّ مَثَلَهُمَا كَمِثْلِ إخْوَةٍ لَهُمَا كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمَا قَالَ نُوحٌ" {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: ٢٦] وَقَالَ مُوسَى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: ٨٨] ، وَقَالَ عِيسَى: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: ١١٨] وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: ٣٦] ، إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبِنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عَيْلَةٌ فَلَا يَنْقَلِبْ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ".
وَفَادَاهُ كُلُّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسَرَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute