للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أَبُو الْيُسْرِ، وكَانَ الْعَبَّاسُ رَجُلًا جَسِيمًا وَأَبُو الْيُسْرِ رَجُلًا مُجْتَمَعًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي الْيُسْرِ: "كَيْفَ أَسَرْتَ الْعَبَّاسَ يَا أَبَا الْيُسْرِ"؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ، هَيْئَتُهُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ" ١.

وقَالَ لِلْعَبَّاسِ: "افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخِيكَ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عُمَرَ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَكْرَهُونِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ، فَإِنْ كَانَ مَا قُلْتَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْزِيكَ"، فَفَدَى الْعَبَّاسُ نَفْسَهُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ، وَفَدَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ابْنَيْ أَخِيهِ وَحَلِيفِهِ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَنَزَلَ فِي الْعَبَّاسِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: ٧٠] .

فَلَمَّا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِدَاءَ أَسْرَى بَدْرٍ لِفَقْرِ الْمُهَاجِرِينَ وَحَاجَتِهِمْ، عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى مَا فَعَلَ فَقَالَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: ٦٧] يَعْنِي بِهِ الْقَتْلَ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} يَعْنِي مَالَ الْفِدَاءِ: {وَاَللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: ٦٧] يَعْنِي: الْعَمَلَ بِمَا يُوجِبُ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، {وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: ٦٧] يَعْنِي: عَزِيزٌ فِيمَا كَانَ مِنْ نَصْرِكُمْ، حَكِيمٌ فِيمَا أَرَادَهُ لَكُمْ، {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: ٦٨] .

يَعْنِي بِهِ: مَالَ الْفِدَاءِ الْمَأْخُوذَ مِنَ الْأَسْرِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:

أَحَدُهَا: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنْ فِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.

وَالثَّانِي: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَنَّهُ تُسْتَحَلُّ الْغَنَائِمُ لَمَسَّكُمْ فِي تَعْجِيلِهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

وَالثَّالِثُ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أَنْ لَا يُؤَاخِذَ أَحَدًا بِعَمَلٍ أَتَاهُ عَلَى جَهَالَةٍ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمُوهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: "لَوْ عَذَّبَنَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا غَيْرُكَ" ٢.


١ رواه ابن جرير في تفسيره "٤/ ٧٨".
٢ رواه ابن جرير في تفسيره "١٠/ ٤٨".

<<  <   >  >>