وفي مقابل ذلك نجده وقد هب فجأة لينتج حضارة رائعة منذ بدأ نشاطه يستقطب حول مجموع من القيم الخلقية التي ولدت في نطاقه، والتي لا يمكن أن نفسر سر تخلقها بما كان فيه من الأوضاع الاقتصادية والنفسية، كما وجدنا ذلك واضحاً في الموءودة.
هذه الاعتبارات لا تقدم لنا حتى الآن الإجابة العامة على السؤال الذي قد وضعناه، وإنما تقدم لنا قرائن قوية تزكيها اعتبارات أخرى.
...
فالزواج مثلاً يعد علاقة اجتماعية جوهرية، وهو من الناحية التاريخية يعد أول عقدة في شبكة العلاقات التي تتيح لمجتمع معين أن يؤدي نشاطه المشترك.
ومع ذلك فمن الواضح أنه لو كان أمر الإنسانية يجري تبعاً (لحاجة) النوع و (منفعته) فحسب، فإن مجرد اختلاط الرجل بالمرأة- كما كانت الحال في العصر الجاهلي- يتفق كثيراً مع القواعد البيولوجية التي يخضع لها النوع، علماً بأن عدد الأفراد ستكاثر حتماً، بفعل ما يطلق عليه (الاتصال في نطاق الحرية الجنسية). ييد أننا نجد أن كل مجتمع معاصر، بما في ذلك المجتمعات التي تخلع على نفسها الصفة (المدنية)، لا يتم فيه اتحاد الجنسين إلا على أساس قيمة خلقية معينة، هي الزواج، الذي يبارك اتحادهما بإشهاره طبقاً لخطة دينية رمزية؛ وبهذا الإشهار يأخذ اتحاد الرجل والمرأة كل معناه الاجتماعي باعتباره عقداً يتفق، لا مع حاجة النوع، بل مع غاية المجتمع.
وهكذا تجري الأمور بصورة عامة فيما يتصل بقضية المجتمع، فإن تنظيمه يجري طبقاً لمقاييس وقواعد، وهي في حقيقتها قيم خلقية لم ينتجها، ولكنها تنظم نشاطه في سبيل غايته.