أتاحت لنا دراسة دورة الحضارة عامة في الفصل السابق أن نستخرج بعض الاعتبارات عن التأثير الاجتماعي للفكرة الدينية. مع أخذنا في الاعتبار عنصر الزمن.
ولسوف تتيح لنا دراسة الدورة المسيحية في هذا الفصل، أن نرى تأثير الفكرة الدينية حين ترتبط بعنصر المكان خاصة.
فالفكرة المسيحية لم تتخذ مجالها في الظروف التاريخية نفسها، التي كانت للفكرة الدينية الإسلامية: فلقد أدت هذه في الواقع دورها في مهدها ذاته. فإذا كانت قد استطاعت أن تحقق أهدافها، فما ذلك إلا لأن شبه الجزيرة العربية كانت أرضاً عذراء، تستطيع أية فكرة دينية جديدة أن تمد فيها جذورها. أما الفكرة المسيحية فهي، على العكس من ذلك، قد ولدت على أرض مزدحمة بالثقافات والأديان القديمة، فكان من العسير عليها في هذه الظروف أن تجد عناصر اجتماعية حرة كافية كيما تحدث تركيباً جديداً. وقد كانت الثقافة الإغريقة والرومانية والديانة اليهودية تحتل منذ عهد بعيد مجال عملها.
فلكي تجد المسيحية مجالها المناسب كان عليها إذن أن تغادر مهدها، وهذا هو الذي يفسر لنا كيف أن المسيحية، وقد ولدت قبل الإسلام بستة قرون، لم تبدأ مهمتها التاريخية إلا بعد الإسلام بستة قرون، بعيداً عن مسقط رأسها.
وهذه الحالة ترينا أن تأثير فكرة دينية معينة رهن ببعض شروط الجغرافية الإنسانية، فإذا لم تجدها في موطنها هاجرت لتجدها في مكان آخر.
والبوذية ذاتها قد اضطرت إلى هجرة مسقط رأسها في الهند، بحثا عن ظروف أكثر ملاءمة، هنالك في الصين حيث غرست تعاليمها.