وإذن فقد غادرت الفكرة المسيحية أرض مولدها (فلسطين)، بحثاً عن هذه الظروف في أوربا الغربية، حيث أنهت الحضارة الرومانية دورتها خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين.
وبقدر ما كان مجتمع غربي أوربا يتحلل ويتفكك، وبالمواد المتخلفة عن هذا التحلل ذاتها، استطاعت المسيحية أن تبني المجتمع الجديد خطوة خطوة، وهو المجتمع الذي نطلق عليه في هذه الأيام (المجتمع الغربي).
وبدهي أن هذه المواد، بحكم كونها متخلفة عن عملية تحلل، لم تكن لتشمل على أدق رباط عضوي فيما بينها. ولقد خلف اختفاء الامبراطورية الرومانية في الواقع جميع مكونات المجتمع الروماني من أشخاص وأفكار وأشياء على حال من الفوضى، كانت هي السمة الظاهرة لما يطلق عليه اسم (العصور الوسطى).
وإذن فلكي تستخدم هذه المواد في بناء جديد، كان من المحتم تنظيمها بطريقة أخرى. وكانت الفكرة المسيحية هي التي استخرجت النسق الغربي من غضون الفوضى التي أعقبت الحضارة الرومانية.
ولقد ألمح جيزو إلى تبيان هذه الحالة، وهو المؤرخ الذي يظل- حتى بعد قرن من الزمن- صاحب الكلمة المسموعة بصدد الحضارة الأوربية، فقد حدثنا جيزو عن: كيف أن تركيب هذه الحضارة كان من عمل الفكرة المسيحية. قال:
((تلكم هي السمة العظيمة الأصيلة للحضارة الأوربية، منذ أن تطورت تحت تأثير الإنجيل، تأثيره الظاهر والخفي، المنكر أو المرضي، حيث عاش القهر والحرية وكبرا معاً)).
فإذا ما ترجمنا حكم هذا المؤرخ، إلى لغة علم الاجتماع كان معناه أن الفكرة المسيحية هي التي صاغت شبكة العلاقات الضرورية التي أتاحت للمجتمع الغربي