الصنف الأول: نفاة الحكم والتعليل، الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة، وصرف الإرادة. فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن يكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد، ولا سببا لنجاة، وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة، كما قالوا في الخلق: إنه لم يخلق ما خلقه لعلة، ولا لغاية هي المقصود به، ولا لحكمة تعود إليه منه، وليس في المخلوقات أسباب مقتضيات لمسبباتها، ولا فيها قوى ولا طبائع، فليست النار سببا للإحراق، ولا الماء سببا للإدواء والتبريد، وإخراج النبات، ولا فيه قوة ولا طبيعة تقتضي ذلك، وحصول الإحراق والري ليس بهما، لكن بإجراء العادة الاقترانية على حصول هذا عند هذا، لا بسببه ولا بقوة قامت به، وهكذا الأمر عندهم في أمره الشرعي سواء، لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا، من غير أن يقوم بالمأمور به صفة اقتضت حسنه، ولا المنهي عنه صفة اقتضت قبحه.
ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة. وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى (بمفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة) وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين وجها، وهو كتاب بديع في معناه. وذكرناه أيضا في كتابنا المسمى (بسفر الهجرتين وطريق السعادتين) .
وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها، ولا يتنعمون بها، وليست قرة أعينهم، وليست الأوامر سرور قلوبهم، وغذاء أرواحهم وحياتهم، ولهذا يسمونها تكاليف. أي قد كلفوا بها، ولو سمى مدع لمحبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفا، وقال: إني إنما أفعله بكلفة، لم يعده أحد محبا له، ولهذا أنكر هؤلاء- أو كثير منهم- محبة العبد لربه. وقالوا: إنما يحب ثوابه وما يخلقه له من النعيم الذي يتمتع به، لا أنه يحب ذاته. فجعلوا المحبة لمخلوقه دونه. وحقيقة العبودية: هي كمال المحبة، فأنكروا حقيقة العبودية ولبّها. وحقيقة الإلهية: كونه مألوها محبوبا بغاية الحب، المقرون