ما تقدم من قولنا في باب المديح وأسبابه، إذ كان الهجاء ضد المديح، فكلما كثرت أضداد المديح في الشعر كان أهجى له، ثم ننزل الطبقات على مقدار قلة أصناف الأهاجي فيها وكثرتها.
فمن الهجاء المقذع الموجع ما أنشدناه أحمد بن يحيى:
كائرْ بسعدٍ إن سعْداً كثيرةٌ ... ولا تبغِ من سَعْدٍ وَفَاءً ولا نَصْرَا
ولا تَدْعُ سَعْداً للقِرَاعِ وخَلِّهَا، ... إذا أَمِنَتْ، وَرَعْيَهَا البَلَدَ القَفْرَا
يروعكَ من سعدِ بن عمروٍ جسومُهَا ... وتزهدُ فيهَا حينَ تقتلهَا خبْرَا
فمن إصابة المعنى في هذا الهجاء أن هذا الشاعر سلم لهؤلاء القوم أمرين يظن أنهما فضيلتان، وليستا بحسب ما وصفناه من الفضائل مصيبتين، وهما كثرة العدد وعظم الخلق، وغزا بذلك مغازي دلت على حذقه بالشعر، فمنها أن أدخل هجاءه لهم في باب الأقوال الصادقة لإعطائه إياهم شيئاً ومنعه له شيئاً آخر، وقصده بذلك لأن يظن أن قوله فيهم إنما هو على سبيل الصدق، وذكره إياهم بما هم من جيد ورديء، ومنها ما بان من معرفته بالفضائل حتى ميز صحيحها من باطلها، فسلم الباطلة ومنه الصحيحة، ومنها أن قطع عن هؤلاء القوم ما يعتذر به الكرام من قلة العدد، فإن الكرام أبداً فيهم قلة، كما قال السموأل ابن عاديا:
تعيرنَا أنَّا قليلٌ عديدنَا ... فقلتُ لها إن الكِرام قليلُ
ومن خبيث الهجاء ما أنشدني أحمد بن يحيى أيضاً:
إن يغدرُوا أو يفجرُوا ... أو يبخلُوا لا يحفلُوا
يغْدُوا عليكَ مرجل ... ينَ كأنهمْ لم يفعَلُوا
فمن جودة هذا الهجاء أن الشاعر تعمد أضداد الفضائل على الحقيقة فجعلها فيهم، لأن الغدر ضد الوفاء، والفجور ضد الصدق، والبخل ضد الجود، ثم أتى بعد ذلك بضد أجل الفضائل وهو العقل، حيث قال: