للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

والعم أن علماءنا لم يكونوا علماء في هذا الباب إلا بعد أن درسوا الشعر دراسة جعلته مع سعته وعمقه وتراحبه كأنه قد جمع لهم ووضع تحت أبصارهم، يرون أفكاره وصوره وهواجسه وخواطره حتى إنك لترى الواحد منهم يفطن في صورة من الصور إلى لمح لصورة أخرى عند شاعر آخر وينبه فينكر القارئ هذا اللمح في بادئ الأمر ثم لا يزال هذا العالم يكشف عن الوجوه والنظائر حتى يعرف القارئ ما أنكر ويقتنع بما استغرب.

ثم إنك ترى أحدهم يقول إن هذه اللفظة بهذا المعنى لم ترد في الشعر الأول وإن أول من أجرها في هذا المجاز هو فلان، وأن هذا الاشتقاق في الشعر اشتقاق محدث كقول أبي العلاء في قول أبي تمام:

ومقتبل صاف من الثغر أشنب

والاقتبال من التقبيل معدوم في الشعر القديم، وكأن ألفاظ الشعر القديم كلها في أذن أبي العلاء مع أن الثغر وماءه كان من أكثر الصور ورودا في الشعر ويقول في قوله:

حتى إذا مخض السنين لها

مخض البخلية كانت زبدة الحقب

هذه الاستعارة لم ستعمل قبل الطائي أراد مخض السنين وإنما يكون المخض للبن.

ويقول التبريزي: الخرقاء التي لا تحسن العمل من النساء ولم يستعرها أحد للخمر قبل الطائي في قوله:

خرقاء يلعب بالعقول حبابها

وتأمل كلام عبد القاهر تجده يفتح الكلام في المسألة فيتوافى عليه سيل من الصور فيذكر الصورة وبعدها أخرى تقاربها من جهة وتباعدها من جهة ثم ينتقل إلى ثالثة ورابعة وخامسة حتى يبعد عن أصل الموضوع، ثم يقطع الكلام مع تدفقه ويقول: ولنعد الآن إلى الأصل.

<<  <   >  >>