للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

[التجوز في الإسناد]

قلنا: إن بحث الإسناد الخبير يتضمن ثلاثة موضوعات رئيسية هي: أغراض الخبر،

وأضرب الخبر، والتجوز في النسبة، وقد أشرنا إلى الموضوعين الأولين إشارات موجزة تفتح باب العلم فيها.

والتجوز في النسبة، أو المجاز العقلي كما هي الترجمة المشهورة لبابه يذكره بعض الباحثين في علم البيان من حيث إنه ضرب من المجاز، ويذكره البعض في أحوال الإسناد الخبري من حيث إنه حال من أحوال الإسناد الخبري، أو النسبة الخبرية.

والمهم أن الإسناد الذي قلنا: إنه مناط الفائدة ومتعلق الغرض من العبارة لا يجري على أسلوب الحقيقة في كل حال، أي أن المتكلمين لم يلتزموا إسناد الأحداث، والأفعال لما هي له دائما، وإنما يتوسعون ويتجوزون انطلاقا مع الخيال واستجابة للحس، وتأنفا في أداء المعاني، فالدموع ويرقرقها نسيم الصبا الذي جاس خلال ديار الأحبة يحمل أنفاسهم، ووميض الغمام يهيج غوافي الأشواق، ويشعل لهيب الحنين، والبرق وغناء الحمام يشجي، ويستفز لواعج الهوى، وحمام بطن ودان يثير بلابل الشوق في نفس قيس بن الملوح، فيقول: "من الطويل".

ألا يا حمامي بطن ودان هجتما ... علي الهوى لما تغنيتما ليا

فأبكيتماني وسط أهلي ولم أكن ... أبالي دموع العين لو كنت خاليا

والدمن الخوالي تهيج علل امرئ القيس، أو عقابيل علله وبقاياها في قوله: "من الطويل"

أتت حجج بعدي عليها فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان

ذكرت بها الحي الجميع فهيجت ... عقابيل سقم من ضمير وأشجان

والحجج جمع حجة وهي السنة، والزبور الكتاب، والمصاحف جمع مصحف، وهي: صحائف مكتوبة مجموعة بين دفتين، والعقابيل: جمع عقبول، وهي بقية العلة.

والرياح السوافي تدرج بما دق من التراب، فتغير آيات ابن الدمينة في قوله: "من الكامل"

دمن خلون وغيرت آياتها ... دق التراب مسفة الأذيال

وذكريات حديث الصاحبة تهز ابن خفاجة في شيخوخته هزة تدير له الزمان كله والشباب، فيصبح ما مضى منه أمامه في قوله: "من الطويل"

لقد هزني في ريطة الشيب هزة ... أرتني ورائي في الشباب أمامي

كل هذه الصور من القول الممتاز لم تستند فيها الأحداث، والأفعال إلى ما ينهض ويتصف بها على وجه الحقيقة، فخفقه البرق لا شتعل الشجا حقيقة، وإنما هي سبب يثيره ومثلها نسيم الريح، وحمام بطن ودان، والدمن الخوالي،

<<  <   >  >>