ووميض الغمام وذكريات الصاحبة كل هذه مثيرات، وأسباب وليست فاعلة لهذه الأحداث والأفعال، ولو قلت: زفرت دموعي لما هب نسيم الريح، واشتقت لما أومض الغمام، وأشجى الله فؤادي بخفقه البرق، وهاجت علل امرئ القيس لما أبصر الدمن الدوارس، واهتز ابن خفاجة لما ذكر أحاديث الصحاب، لكان الكالم جاريا على أسلوب الحقيقة؛ لأنك أسندت الأفعال والأحداث إلى ما هي له، والعبارة قد ذهبت عنها خصائصها الشعرية، وانطفأ فيها وهج الحس، وصارت إلى الكلام بارد مغسول كما يقولون.
ولما كانت الحقيقة العقلية شرطا في فهم المجاز العقلي، ومقدمة ضرورية له اعتاد الباحثون أن يذكروا شيئا عنها في صدر حديثهم عن التجوز في الإسناد، وقد عرفها الخطيب القزويني بقوله:"هي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر"، وأول ما يلاحظ في هذا التعريف أنه يتكلم إسناد الفعل أو معناه، ومعنى الفعل هو اسم الفاعل، واسم المفعول والزمان، والمكان واسم التفضيل، وندع هذا التحديد ومناقشته إلى مكانه من البحث.
أما قوله:"إلى ما هو له"، فإنه يعني أن تسند الفعل إلى الفاعل الذي قام به، وفعله حقيقة كقولك: أنبت الله البقل، وكقولك: قام محمد، ورمى علي، وأنار القمر، وطلعت الشمس، وكالأفعال في قول الشاعر، وكان يتمثل بها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:"من البسيط"
من كان حين تمس الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين والشعثا
وألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوما راغما جدثا
فقوله:"تمس الشمس جبهته" إسناد حقيقي؛ لأنه أسند المس إلى الشمس وهي فاعلة.