للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقوله: "يخاف الشين والشعثا" كذلك إسناد حقيقي؛ لأنه أسند الخوف إلى هذا الفتى الذي يتكلم عنه، فقد كان نظيفا أنيقا مترفا يخاف من كل ما يشينه، ويشعث هيأته أي يغيرها ويثيرها، ومثله فسوف يسكن يوما؛ لأن فاعل يسكن هو ذلك الفتى بعد موته، الأفعال هنا مسندة إلى فاعليها الذين فعلوها، ولعلك تلحظ أن هذا الشاعر ذكر من مظاهر ترفه خوفه من الشمس، والشعث وحرصه على بقاء البشاشة، وماء الحياة الذي يترقرق في عوده، وهناك مظاهر كثيرة للترف سكت عنها الشاعر؛ لأنه أراد إلى ضرب خفي من المقابلة في العنى، فذكر الخوف من الشمس ليقابله بالدخول في التراب، والدفن فيه، وذكر الحرص على البشاشة، وماء الحياة ليقابله بيبس العود، وذهاب الحياة جملة بالموت المهيئ لدخول القبر.

ولما كانت مسألة خلق الأفعال من المسائل التي شغلت المسلمين نبه أهل هذه الصناعة إلى أننا، وإن كنا نعتقد معتقد أهل السنة، وأن الأفعال كلها عند التحليل الباحث عن مصدرها، مخلوقة لله إلا أننا نقول: إن زيدا هو الفاعل الحقيقي في قولنا رمي زيد؛ لأن الرمي معنى قائم بزيد، ووصف له، وله فيه كسب وتحصيل، وهذا يكفي ليكون الإسناد حقيقيًّا، فقولنا: إن خالق الأفعال كلها هو الله، وأنه سبحانه هو الفاعل الحقيقي لكل شيء لا يعني أن تكون كل الصور التي تستند فيها الأفعال لغيره سبحانه صورا مجازية، وهذا لو قلناه لكان ضربا من الهذيان، ولقادنا إلى كبيرة حين نسند أفعال القيام، والقعود والأكل والشرب وغيرهما مما يتنزه عنه جلاله.

وقد نبه العلامة ابن السبكي إلى أننا نقول: فاعل حقيقي ولا نريد به أنه هو الذي أثر وفعل حقيقة، وإنما نريد ما تعارف عليه القوم في أوضاعهم اللغوية، فإنهم لم يلاحظوا في قيام زيد غير نسبة القيام إليه، "وإن كان الله تعالى خالقه، ومن الأفعال التي خلقها الله ما لا يصح شرعًا أن تنسب إليه سبحانه كالأفعال المحرمة، وحاصل وجوه الإسناد الذي يوصف بأنه حقيقي تتلخص في إسناد الفعل لمن يقع منه الفعل الحقيقي، ويؤثر في وجوده، وذلك لا يكون

<<  <   >  >>