للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

أن الذي غشيهم أمر مبهم أمره في الهول والشدة، ومنه قوله: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} ١، أي: تغشاها أمور عظيمة مبهم أمرها في الجلال والكثرة، قال الزمخشري: وقد علم بهذه العبارة أن يغاشها من الخلائق الدالة على عظمة الله، وجلاله أشياء لا يكتنهها النعت، ولا يحيط بها الوصف.

ومنه قول أبي نواس: "من الكامل"

ولقد نهزت مع الغواة، بدلوهم ... وأسمت سرح اللحظ حيث أساموا

وفعلت ما فعل امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام

فقوله: ما فعل امرؤ بشبابه، إشارة إلى أن ما بلغه في اللهو والعبث، والمجون وشيء بالغ في الكثرة، والتنوع مبهم أمره في ذلك.

ومثله قول كثير: "من الطويل"

تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت بين الجوانح

فقوله: ما خلفت يشير إلى أنها خلفت ما لا تحيط به عبارة.

وقد أحس البلاغيون بجلال هذه الأساليب الملفعة بالظلال والضباب، والتي لا ينكشف لنا المراد منها انكشافا ضاحيا، ولا يحجب عنها حجبا قاتما، وإنما تتراءى لنا فيها المعاني هاربة في غيم شفيف، أحس البلاغيون بجلال هذه الأساليب التي لها في النفوس سحر وخلابة، ففسروها تفسيرًا نفسيا بديعا.

قال العلوي: "إن النفس إذا وقعت على كلام غير تام بالمقصود منه تشوقت إلى كماله، فلو وقعت على تمام المقصود منه لم يبق لها هناك تشوق أصلا؛ لأن تحصيل الحاصل محال، وإن لم تقف على شيء منه، فلا شوق لها هناك، فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون بعض، فإن القدر المعلوم يحدث شوقا إلى ما ليس بمعلوم".


١ النجم: ١٦.

<<  <   >  >>