للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة كما تقول لمن يبس الثرى بينه وبينك، أشهد على أني لا أحبك".

فالمخالفة كما يذكر الزمخشري تفيد الفرق بين نوعين من الشهادة: شهادة الله على براءته مما يشركون، وتلك شهادة صحيحة وشهادتهم، وتلك شهادة لافائدة منها إلا التهاون بهم، فلما وجد هذا الفرق المعنوي بين الشهادتين، وجب أن يوجد في الصياغة ضرب من المخالفة.

والفعل المضارع يدل على الحال أي على وقوع الحدث الآن، وهذه دلالته الأصيلة، ومن هنا كانت صيغته أقدر الصيغ على تصوير الأحداث؛ لأنها تحضر مشهد حدوثها، وكأن العين تراها وهي تقع، ولهذا الفعل مواقع جاذبة في كثير من الأساليب حين يقصد به إلى ذلك، وترى المتكلمين من ذوي الخبرة بأسرار الكلمات يعبرون به عن الأحداث الهامة التي يريدون إبرازها، وتقريرها في خيال السامع.

خذ لذلك قول الزبير بن العوام في غزوة بدر قال: "لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص، وهو على فرس وعليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: أنا أبو ذات الكئوس، وفي يدي عنزة فأطعن بها في عينيه، فوقع ثم أطأ برجلي على خده حتى خرجت العنزة من عنقه".

الأفعال في هذه القصة كلها قد وقعت قبل زمن حكايتها، ولكن الحاكي -رضي الله عنه- عبر عن بعض هذه الأحداث بصيغة المضارع التي تشير إلى أن الحدث يقع الآن، قال: فأطعن بها في عينيه وكان قياسه أن يقول: فطعنته كما قال: لقيت عبيدة، ولكن هذا الجزء من المعنى أعني طعنه هذا الفارس المستلئم الذي كان مدلا باقتدراه عمل جليل من الزبير رضي الله عنه، فحرص على إبرازه، واستحضار صورته شاملة يراها من يسمعه من خلال العبارة التي

<<  <   >  >>