للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقبضته بيدي، وذقته بفمي، وقد يظن من لا معرفة له بأسرار الكلام، وخصائص التراكيب أن هذه القيود فضلات ثقيلة في الكلام، إذ الرؤية لا تكون إلا بالعين، والوطء لا يكون إلا بالقدم، والقبض لا يكون إلا باليد، والذوق لا يكون إلا بالفم، ولكن المعنى هنا بالقيد أكبر منه بدونه، فليس المعنى على أنه رآه، ووطئه وذاقه فحسب، وإنما يضاف إلى ذلك قدر كبير من التصوير والتقرير، لذلك لا يقولون هذا إلا في شيء يعظم مثاله، ويعز الوصول إليه، فيؤكد القول فيه دلالة على نيله والحصول عليه، وقريب من هذا ما يقال في الحروف التي يقولون: إنها زائدة ويريدون أن أصل المعنى يبقى مع إسقاطها، كما يبقى أصل المعنى في قولك: رأيته من غير أن تضيف بعيني.

ومما يتصل بأحوال متعلقات الفعل، أو بالقول في تقييد المسند القول في معاني الحروف الجارة التي تتعلق بهذه الأفعال، وهو باب خصب في المعاني الأدبية، ودرس جليل في فهم اللغة وسرائرها، وقد نبه إليه الدارسون لأسلوب القرآن، وانتفع به البلاغيون وأخذوه عنهم، وكان الزمخشري من أكثر المفسرين التفاتا إلى هذه الحروف.

يقول في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} ١ مشيرا إلى خلابة لام الجر، وكيف نهضت ببعث مشهد ساخر: "فإن قلت: فما معنى اللام في قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} ؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك: أكان عند الناس عجبا؟ قلت: معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم، وإنكارهم وليس في عند الناس هذا المعنى".

وانظر إلى الفرق بين علي واللام حيث يقع الفعل مرة معدى بعلي، وأخرى باللام، وذلك كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} ٢،


١ يونس: ٢.
٢ الأنبياء: ١٠١.

<<  <   >  >>