أنه ليس بصواب، وسبب التوكيد بالنسبة إلى الثاني ظاهر، أما بالنسبة إلى الأول، فإنه لوحظ أن النفس حين تتردد تصير في حاجة إلى قدر من التوثيق، وإن كان الحكم على وفق ظنها؛ لأن ما تظنه وتمثل إليه هي أيضا في حاجة إلى توكيده، وهذا ملحظ نفسي دقيق، وسوف يتضح من سياق الشواهد، أما إذا كان المخاطب منكرا، فإنه لا بد من التوكيد، وهذا التوكيد، يختلف قلة وكثرة على وفق أحوال الإنكار، فإن كان إنكاره إنكارًا غير مستحكم في نفسه أكد بمؤكد واحد، وإن كان مستحكمًا تضاعفت عناصر التوكيد بمقدار تصاعد حالة الإنكار؛ لأن وظيفة الخبر حينئذ هي تثبيت هذا المعنى في تلك النفس الرافضة له، فلا مفر من أن تكون قوة العبارة، ووثاقتها ملائمة لحال النفس قادرة على الإقناع، وخير شاهد يصور هذا الأصل النفسي الدقيق في بناء الأسلوب، تلك الآية الكريمة التي تصف لنا حوار المرسلين مع أصحاب القرية، قال سبحانه:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} ١.
ترى خطاب الرسل -عليهم السلام- لأصحاب القرية مؤكدا في الصورة الأولى بأن واسمية الجملة، وذلك؛ لأنهم منكرون رسالتهم، كما يدل عليه قوله: فكذبوهما، وقد رد أصحاب القرية كلام الرسل بعد هذا الخطاب الأول بقولهم:{مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ، أي لستم رسلا؛ لأنهم يعتقدون أن الرسول لا يكون بشرا، وهو كما ترى أسلوب مؤكد بالنفي والاستثناء، ثم أردفوا ذلك بقولهم:{وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} ، وهذا تأكيد ثان لنفي الرسالة عنهم بصورة أبلغ؛ لأنهم في هذه الجملة الثانية ينكرون أنه الله أنزل شيئا عليهم وعلى غيرهم، ثم أردفوا ذلك بقولهم:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} ،