ما في أيدي الناس فالادخار له أولى، لأن المقصود إصلاح القلوب لتتجرد لذكر الله، ورب شخص يشغله عنه وجود المال ورب شخص يشغله عدمه، والمحذور هو الشغل عدءاً كان أو وجوداً، فالدنيا في عينها غير محذورة لا وجودها ولا عدمها، ولذلك بعث صلى الله عليه وسلم إلى أصناف الخلق وفيهم التجار والمحترفون أي أهل الحرف والصنائع - فلم يأمر التاجر بترك تجارته ولا المحترف بترك حرفته، ولا أمر التارك لهما بالإشغال بهما، بل دعا الكل إلى الله وأرشدهم إلى أن نجاتهم في انصراف قلوبهم عن الدنيا، فصواب الضعيف ادخار قدر حاجته كما أن صواب القوي ترك الادخار، وكذلك المعيل لا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبراً لضعفهم وتسكيناً لقلوبهم.
وقد ادخر صلى الله عليه وسلم لعياله قوت سنته، وأما نهي أم أيمن عن أن تدخر شيئاً لغد، ونهي بلال عن الادخار في كسرة خبز ادخرها ليفطر عليها وقال {انفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا} فلأن الادخار يضر بعض الناس دون بعض، وكذلك ما روى أبو أمامة الباهلي أن بعض أصحاب الصفة توفي فما وجد له كفن، فقال صلى الله عليه وسلم (فتشوا ثوبه) فوجدوا فيه دينارين في داخل إزاره فقال صلى الله عليه وسلم (كيتان).
وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف أموالاً كثيرة فلا يقال ذلك في حقه، ووجه الجمع بين هذين الأمرين أن إظهار الزهد والفقر والتوكل مع تلك الدنانير تلبيس.
قلت: رأيت في ترجمة النجم الخبوشاني الأمار بالمعروف النهاء عن المنكر للملوك فمن دونهم الذي يضرب به المثل في الزهد إنه لما مات وجدوا له ألوف
دنانير، هذا مع مبالغة المترجمين له في الثناء عليه، ومع ما في ترجمته من إنه كان يصوم ويفطر على خبز الشعير ويركب الحمار وآنية بيته كلها خزف، فهذا الكلام مع نبوه عن هذا المقام سهل ذكره ما ذكره العلماء في الجمع بين حديث الدينارين وعدم إنكار الأقوال الكثيرة في ميت آخر وان ذلك لما أن إظهار الزهد والباطن بخلافه تلبيس، فما عجب لحال الخبوشاني وأعجب ولا تغتر.
[المقام الثاني في أن الزهد لا ينافي كون المال في اليدين]
الزهد في اللغة الرغبة عن الشيء، خصص بما يكون الرغبة فيه عن الدنيا. وفي الاصطلاح ترك المباح المحبوب المقدور عليه لأجل الله.