هذا ما رأيت أن أذكره مما قوى عندي مما حضرني في هذا المقام من موانع حصول المقصود من حرفة الشهادة ومفاسدها، ووراء ذلك غور لا يمكن التصريح به، ورأيت أن الإمساك عنه أولى، وما أحق ذلك بقول القائل:
في النفس أشياء لا أستطيع اذكرها ... لو قلتها قامت الدنيا على ساق
والله المسئول في الخلاص منها واليه ... اضرع وعليه أتوكل
الفصل الخامس
في أن الفلاكة والإهمال ألصق بأهل العلم
وألزم لهم من غيرهم وبيان السبب في ذلك
وإنما كانت الفلاكة ألصق بهم غالباً من غيرهم لأمور:
(منها) أن الإمارة عنهم بمعزل، والتجارة مبنية على السفسفة والمماحلة والآمال التي لا يقوم دليل على وقوعها، والفلاحة والصناعة يلزمهما المهانة والتلوث برذائل الحيل الدنيوية وأهل العلم لهم أنفة واستنكاف عن ذلك، فيقعدون عن الاكتساب متعللين بالأماني الكاذبة، فيقعون في الفاقة والإملاق.
(ومنها) أنهم يحسنون ظنونهم في الناس على مقتضى ما يتوهمونه في أنفسهم من استحقاقها لذلك، ويبنون على ذلك رفيعاً ويحاولون منيعاً، والناس لاسيما أهل عصرنا لا يقيمون لعلومهم ومعارفهم وزناً فيبنون ظنونهم على شفا جرف هار، وتأتي الحوادث بنيانهم من القواعد فتجتثه ويعودون بآمال خاسرة وظنون كاذبة.
(ومنها) أنهم لاعتيادهم القواعد الكلية والخوض في الأنظار الدقيقة يطردون معظم الأشياء كلياً حرماناً وحصولاً، ويقيسون الأشياء على أشباهها على طريق قياسهم الفقهي، ويلحقون بعض الوقائع ببعض على سبيل إلحاق النظير بالنظير والقياس التمثيلي. والقضايا وان تناسبت أو تساوت من وجه فقد تختلف من وجه آخر أو من وجوه أخر تخفى على غير المهرة في أحكام الدنيا ودقائقها، أو الخصوص في المادة لو لوجود مانع أو فوات شرط أو لكون تلك القاعدة المأخوذ منها حكم ذلك الفرع ليست كلية في نفسها بل أكثرية وذلك الفرع من غير قسيم