اعلم أن الفلاكة إذا استولت على شخص وسلبته القدرة على الأفعال انتقل إلى الاسترواح والتنفس بالأقوال، وذلك لما أن في الكلام راحة وفرجا وتنقيصا من ألم الباطن، ولذلك قلما يطيق كتمان الأسرار إلا الواحد الفذ، وكذلك أيضا قلما يطيق الإنسان استدامة أقوال تخالف ما في باطنه بل لا بد له من فلتات مطابقة لما في باطنه، لما أن النفس بطبعها تطمح إلى طلب الراحة والاستلذاذ بحسب المقدور.
وإذا اتضح أن في الأقوال تنفسا وراحة ولذة وتنقيصا من آلام الباطن وضحت الحكمة في انتصاب المفلوكين خطباء وشعراء وحكماء فمرة يسلون أنفسهم بترجيح الكمالات النفسانية على الكمالات المالية بالأدلة الخطابية والتشبيهات الشعرية، ومرة يذكرون عوارضهم الأزمة بمقتضى الفلاكة ويضرعون عنها أعذارا وحكمة وتشبيهات رائقة وكلمات فائقة تنقيصا من قبح صورتها، وليشغلوا الناس بما أورده فيها من محاسن الكلام عن الفكرة في صورتها الشنيعة، ومرة يسابقون إلى ذكر نقائصهم ويجعلونها رقة أدبية أو نكتة شعرية أو كلمة هزلية قبل أن يذكرها غيرهم عنهم ليصرفوا الناس عن الاشتغال بها لأن النفوس تكره المعاد، ولذلك قيل في الأمثال (أقبح من معاد) وليكون ذلك أخف على نفوسهم، لما أن الشخص لا يتأنف من نفسه ما يتأنفه من غيره ولا يثقل عليه كلامه ككلام غيره.
حكي إن الاخفش الصغير كان يحفظ الأهاجي التي هجاه بها ابن الرومي ويوردها في جملة ما يورده، والحكمة فيه ما ذكرته لا ما ذكره ابن خلكان في تاريخه من إنه كان يقول (أنوه بذكري بها) فإن ذلك أن قاله الأخفش فقوله غطاء على المعنى الحقيقي. ولذلك أيضا يذكرون الأسفار ويغرون بها مرة وينهون عنها أخرى، فالإغراء لما قدمته في الفصل الرابع، والنهي يكون حيرة ودهشا، ولذلك أيضا يغرون بتطلب المجد والثروة تارة ويأمرون بالقناعة أخرى قلقا واضطرابا
ويذمون الأيام ويتضجرون ويتململون ويستعتبون ويشعرون وهم لا يشعرون ويفتنون وهم يفتنون ويحسبون أنهم صنعا إلا أنهم هم الخاسرون، ويتلطفون وهم يستثقلون ويتعذرون ولكن لا يعذرون أم تسألهم خرجا فهم من مغرم مثقلون، فإنا لله وإنا اله راجعون.