أن الغنى وصف الحق والفقر وصف العبد وصفات الربوبية لا ينازع فيها، معارض بأن العلم والمعرفة وصف الرب والجهل والغفلة وصف العبد فليكونا أفضل له.
ثم لا شك أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص، والغني المنفق ماله في الخيرات أفضل من الفقير الحريص.
قال ابن دقيق العبد في شرح العمدة: الذي تقتضيه الأصول إنهما إن تساويا وحصل الرجحان بالعبادات المالية يكون الغنى أفضل، ولا شك في ذلك وإنما النظر فيما إذا تساويا في أداء الواجب فقط وانفرد كل واحد بمصلحة ما يوفيه، فإذا كانت المصالح متقابلة ففي ذلك نظر يرجع إلى تفسير الأفضلية، فإن فسر الأفضل بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة، وان كان الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف، فترجح الفقر. ولهذا المعنى ذهب الجمهور من الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر، لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها وذلك مع الفقر أكثر منه مع الغني، فكان أفضل بمعنى الثرف - هكذا قاله ابن دقيق العيد في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} لما شكى له أن الفقراء قالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم - الحديث.
فقد بان لك واتضح بالكلام في هذين المقامين أن التعلق بالأسباب لا ينافي التوكل، وان وجود المال في اليدين لا في القلب لا ينافي الزهد، والمقصود إلجام المفلوكين
عن التعلق بالزهد أو التوكل في انزواء الدنيا عنهم جدلا مهما كانوا محتجين لا زاهدين حقيقة فإن الزاهد حقيقة لا كلام معه، لأن الزهد كما لا ينافي المال لا يستلزمه، وغايته أن الزهد على قسمين: قسم مع المال، وقسم لا مع المال. فلا منافاة ولا استلزام له.