فتأخرت صلته فشفع هذه القصيدة بأخرى وأتبعها برقعة فلم يزدها ابن العميد غير الإهمال، فتوصل إلى أن دخل عليه ومجلسه محتفل بالأعيان فأشار بيده إليه وقال: أيها الرئيس إني لزمتك لزوم الظل وذللت لك ذل النعل وأكلت النوى المحرق انتظارا لصلتك، ووالله ما بي الحرمان ولكن شماته قوم نصحوني فاغتششتهم وصدقوني فاتهمتهم فبأي وجه ألقاهم، فإن كان للنجاح علامة فأين هي وما هي، إن الذي تحسدهم على ما مدحوا به كانوا من طينتك وان الذين هجوا كانوا مثلك، فزاحم بمنكبيك أعظمهم سناءا وأنوارهم شعاعا. فحار ابن العميد وشده وأطرق ساعة ثم قال: هذا وقت يضيق عن الإطالة منك في الاستزادة وعن الإطالة منا في المعذرة، وإذا ترامينا ما دفعنا إليه استأنفنا ما نتحامد عليه فقال ابن نباتة: هذه نفثة مصدور والغني إذا مطل لئيم. فاستشاط ابن العميد وقال: والله ما استوجبت هذا العتب من أحد من خلق الله، ولست ولي نعمتي فأحتملك ولا صنيعتي فأغضى عنك، وإن بعض ما أقررته في مسامعي تنقض منه مرة الحليم
ويبدد شمل الصبر، هذا وما استقدمتك بكتاب ولا استدعيتك برسول ولا سألتك مدحي. فقال ابن نباتة: لما جلست في صدر إيوانك بأبهتك وقلت (لا يخاطبني أحد إلا بالرياسة) دعوتني بلسان الحال وان لم تدعني بلسان المقال. فثار ابن العميد مغضبا ودخل حجرته وتعوص المجلس، وسمع ابن نباتة ذاهبا وهو يقول: والله إن سف التراب والمشي على الجمر أهون من هذا، فلعن الله الأدب إن كان بائعه مهينا له ومشتريه مماكسا فيه، فلما سكن غيظ ابن العميد وثاب إليه علمه التمسه ليتعذر إليه فكأنما غاص بين سمع الأرض وبصرها، فكان حسرة في قلب ابن العميد إلى ان مات - ملخصا من ابن خلكان.