للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أي أننا وإن افترض الله علينا ما شاء من عبادات فهذا ما تقتضيه عبوديتنا له سبحانه، ويقتضيه كونه مستحقًا للعبادة، وعندما نراه- جل شأنه- يخفف عنا بعض التكاليف، ويرفع بعضها في أوقات معينة، مراعاة لظروف البعض، فهذا منتهى الرحمة والرأفة من الرب بعبيده المكلفين في الأصل بطاعته وعبادته.

[شريعته كلها رحمة]

ومما يؤكد هذا المعنى أن أحكام الشريعة التي أمرنا الله أن نتحاكم إليها ونتعامل بها ما هي إلا مظهر عظيم من مظاهر رحمته بعباده، ألم يقل سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧] فالحدود على سبيل المثال لو تأملناها جيدًا لوجدناها بمثابة السور الشائك الذي يحمي بناء المجتمع المسلم، والذي لا بد من وجوده وإلا ضاع الأمن والأمان والثقة والاستقرار {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٧٩].

والجهاد في سبيل الله ما هو إلا مظهر عظيم من مظاهر الرحمة بعموم الناس.

فإن قلت: كيف يكون القتل والدماء رحمة بالناس؟!

يكون رحمة بالناس لأن من خلاله يزيل المسلمون العوائق التي تحول بينهم وبين دعوة الناس الذين لا يعلمون شيئًا عن الإسلام، فطغاتهم يشكلون حائلا يحول بينهم وبين وصول الدعوة إليهم {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: ١٩٣].

[تقليل الأعمال في أعيننا]

ومن مظاهر رحمة الله بعباده أنه سبحانه يريد منهم أن يؤدوا ما أمرهم به كي يدخلهم الجنة، ولأنه يعلم كراهية نفوسنا للتكليف وحبها للراحة، فإنك تجده يقلل الأعمال المطلوبة في أعيننا ليسهل علينا أداءها، فيقول لنا عن الصيام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: ١٨٣، ١٨٤] تأمل عبارة: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} وما فيها من معان الاستدراج وتيسير العبادة.

ونفس الأمر بالنسبة للحج: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: ٢٠٣].

أما بالنسبة للمحرمات فهو سبحانه يخبرنا بأن كل الأطعمة والأشربة مباحة لنا إلا بعض الأصناف اليسيرة، ولو اضطررنا لتناولها فلا إثم علينا {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: ١١٥].

الرحمة المدَّخرة

إن الحديث عن مظاهر الرحمة الإلهية لا ينتهي، وكيف له أن ينتهي وقد أخبرنا سبحانه بأنه {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: ١٢] فرحمته سبحانه قد شملت كل شيء {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٥٦].

ولعل أفضل ما نختم به الحديث عن هذا المظهر العظيم من مظاهر حب الله تعالى هذه البشرى التي حملها إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبرنا بأن الله عز وجل قد خلق مائة رحمة جعل جزءًا واحدًا منها للدنيا يتراحم بها الناس فيما بينهم، أما بقية المئة (التسعة وتسعون جزءًا) فقد ادخرها- سبحانه- ليوم أحوج ما نكون فيه إلى الرحمة, ليوم القيامة.

قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة

طباق بين السماء والأرض، فجعل منها في الدنيا رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، وأخَّر تسعًا وتسعين، فإذا كان يوم القيامة أكملها

بهذه الرحمة» (١).


(١) رواه مسلم.

<<  <   >  >>